هل كان المسيح ناجحًا في حياته؟ وإن كان كذلك، فما هي نوعيّة نجاحه؟ لقد وضع المسيح هدفًا لحياته وهو أن يقتبل كليًّا حبّ الله وأن يضع جميع النّاس في هذا الحبّ الإلهيّ. وأراد المسيح أن يقتبل النّاس هذا الحبّ لكي يستطيعوا أن يحبّوا بعضهم بعضًا: «كما أحبّني الآب، كذلك أحببتكم. أثبتوا في محبّتي، وصيّتي هي أن تحبّوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم» (يو 15: 9-12).
السؤال الأوّل: هل نجح المسيح في اقتبال حبّ الله في حياته الأرضيّة؟ كان تصرّف يسوع، بصفته ابن الله، ينطلق من أبيه الإلهيّ، وهو لا يريد أن يعيش إلاّ من خلال أبيه: «الحقّ الحقّ أقول لكم، لا يستطيع الإبن أن يفعل شيئًا من عنده، بل لا يفعل إلاّ ما يرى الآب أن يفعله. فما فعله الآب يفعله الابن على مثاله» (يو 5: 19).
حاول إبليس، ككثير من الناس، أن يحمل المسيح على الإبتعاد عن أبيه والتخلّي عنه، فيسجد أمام الشرّ. لكنّه فشل... «ثمّ مضى إبليس بيسوع إلى جبل عالٍ جدًا وأراه جميع ممالك الدنيا ومجدها وقال له: أعطيك هذا كلّه إن جَثَوتَ لي ساجدًا. قال له يسوع: إذهب يا شيطان فإنّه مكتوب: للربّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد» (متى 4: 7-10). وهكذا بقي يسوع الإبن الحقيقيّ الذي يقتبل كلّ الحياة من يد أبيه ويشكره عليها: «المجد لك يا أبي المحبّ، أنت مصدر حياتي، أنت نبع حبّي».
لقد واجه المسيح في آخر حياته، صراعًا شديدًا بين إرادته وإرادة الله، ولكنّه بقي، حتى في هذا الصراع، مستسلمًا كلّيًا لإرادة أبيه: «يا أبتِ، إن أمكن، فلتبعد عنّي هذه الكأس، لكن لا كما أشاء، بل كما تشاء أنت» (متى 26: 39). وعلى الصّليب، شعر المسيح بأنّ الله تركه: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟» (متى 27: 37). إلاّ أنّه بالرّغم من هذا الشّعور لم يترك أباه، بل بقي مخلصًا له حتى النهاية. وفي لحظة الموت، وضع حياته بين يدي أبيه «يا أبتِ، في يديك أجعل روحي» (لوقا 23: 46). يمكننا القول إذًا بأنّ المسيح كان ناجحًا في علاقته مع أبيه، إذ كان يستمدّ الحبّ منه بشكلٍ كلِّيّ.
السؤال الثاني: هل نجح المسيح في إعطاء حبّ الله للعالم؟ لقد أحبّ المسيح أن يزرع حبّ الله في قلوب الناس، ولكنّهم بادلوه أحيانًا كثيرة بالحسد والحقد.
إلاّ أنّ المسيح نفسه لم يحسّ بخيبة الأمل، حين رأى الكثير من تلاميذه ينسحبون بعد حديثه عن خبز الحياة: «فارتدّ عندئذٍ كثير من تلاميذه وانقطعوا عن السّير معه. فقال يسوع للإثنيّ عشر: أفلا تريدون أن تذهبوا أنتم أيضًا؟» (يو 6: 66-67). كذلك لم يحسّ يسوع بخيبة الأمل، حين هرب تلاميذه بعد اعتقاله: «وتركه التلاميذ كلّهم وهربوا» (متى 26: 56).
من الممكن أن يكون المسيح قد شعر بخيبة الأمل من تلاميذه، وبحسد الناس وحقدهم تجاهه. وهذا لا يعني أنّه فشل في إعطاء حبّ الله للعالم. ويؤكّد يوحنّا ذلك بقوله: «إنّ المسيح كان قد أحبّ خاصّته الذين في العالم، فبلغ به الحبّ لهم إلى أقصى حدوده» (يو 13: 1).
ويقول يسوع على الصَّليب: «قد تمّ كلّ شيء». تعني عبارة «كلّ شيء» «حبّ الله في المسيح الذي لم يفشل ولم يمُت»، بل وصل إلى القمّة، إلى نهاية مسيرته. قد يرفض «العالم» هذا الحبّ، لكنّ الرفض والحقد هما اللذان يعطيان المسيح الفرصة لكي يعبّر عن حبّه بكلّ أبعاده، أيّ أنّه، أمام حقد النّاس الذين يصلبونه، يكشف لنا أنّ الله لا يحبّ الإنسان لأنّه صالح فقط، وبنسبة صلاحه، بل يحبّه أيًّا كان وضعه، لأنّ الله لا يمكنه أن يكون إلاّ نبع حبّ يعطي ماءه الحيّ لجميع الناس.
فحتى أمام الأعداء، لا ينقلب حبّ الله حقدًا، بل يبقى حبًا ورحمة ومسامحة: «يا أبتِ، اغفر لهم لأنّهم لا يعرفون ماذا يفعلون» (لوقا 23: 34). كأنّما الحقد وقود لنار الحبّ. كان المسيح في موته على الصّليب كالغصن المزهر الذي يعطي رائحته الطيّبة لجميع النّاس، حتى الذين قطعوه.
تطلع شمس حبّ الله، أكثر ما تطلع، من صليب المسيح، تطلع على الأخيار لتنيرهم وتدفئهم، كما تطلع على الأشرار وتدعوهم ليصيروا أبناء الله: «سمعتم أنّه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوّك، أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم وصلّوا من أجل مضطهديكم لتصيروا بني أبيكم الذي في السموات، الذي يُطلع شمسه على الأخيار والأشرار، ويُنزل المطر على الأبرار والفجّار» (متى 5: 43-45).
لم يتخلّ الله عن المسيح، وهو على الصّليب، إذ هناك تفجّر حبّه بكلّ قوّته الإلهيّة. فالصّليب قمّة نجاح حبّ الله، وبهذا الحبّ خلّص الله الإنسانيّة وأخرجها من موت الخطيئة وفشلها. يعتقد بعض النّاس أنّ المسيح خلّص البشريّة بعذاباته، غير أنّ قوّته الخلاصيّة لم تنبع من عذاباته، بل من حبّه الإلهيّ.
من كتيّب «من الفشل إلى النجاح»
بقلم الأب فرانس فاندرلُخت اليسوعيّ