يسوع هو المحور والقاعدة لكلّ إنسانٍ وجماعة. فالإله صار إنسانًا بشخص يسوع المسيح لكي يعيد اتّحاد كلِّ إنسان مع الله، ولكي يجمع الشّعوب في الوحدة برباط الحقيقة والعدالة والمحبّة. هذا الاتّحاد عاموديًّا بالله وهذه الوحدة أفقيًّا بين جميع الناس تُسمّى في الكتاب المقدّس "شركة"، ويحقّقها الرُّوح القدس.
فبات من واجب كلّ واحد منّا العمل على هذين البُعدَين: الاتّحاد بالله والوحدة مع النّاس. ولذا، جزم الربّ يسوع في إنجيل متى: "مَن ليس معي فهو عليّ. ومَن لا يجمع معي فهو يبدّد" (متى12: 30).
يوجّه الرَّبُّ يسوع كلامه هذا إلى الفرّيسيِّين الذين رفضوا الاعتراف بقدرته الإلهيّة على إخراج الشّيطان من الرَّجل الذي مسّه بروحه الشرِّير، فسلب منه النظر والنطق وأضحى أعمى وأخرس. فقالوا، حسدًا وحقدًا، إنّ يسوع يُخرج الشيطان لأنّه هو رئيسُ الشّياطين، بعلُ زبول، لهذا كشف يسوع أمرهم بأنّهم ضدّه، ويعملون عمل إبليس الذي يفرّق ويُبدّد، فيما المسيح جاء ليجمع ويوحّد ويخلّص.
على هذا الأساس بنى كنيسته لكي تجمع، وتظهر أمام الجميع أداةَ الوحدة وعلامتَها. الكنيسة باللّفظة السريانيّة "كنوشتا" تعني الجماعة، من فعل "جمعَ - كانِش". إنّها الجماعة التي يجمعها المسيح بكلمته، كلمة الحقيقة والمحبّة التي تُحرّر وتجمع، وبنعمة أسراره السَّبعة، التي أنشأها لكي تجمع وتوحّد عموديًّا مع الله، وأفقيًّا بين جميع الناس.
لقد امتلأ الفريسيّون حقدًا على يسوع، لأنّه اجتذب الناس إليه بمحبّته ووداعته وبفعل الخير، فيما كانوا هم يتسلّطون عليهم ويسودونهم. وبخاصّة لأنّ الشَّعب، من بعد أن شاهد آية إخراج الشيطان من الرّجل الأعمى والأخرس، رأى في يسوع المسيحَ المنتظر، المعروف في الكتب المقدّسة "بابن داود". ولذلك قالوا: "لعلّ هذا هو ابن داود" (متى12: 22). هذا الاعتقاد أغاظ الفرّيسيّين، لأنّه يأخذ من وهجهم الكاذب والمفتعل.
هذا الأمر ليس جديدًا. فالحسد هو في أساس الشّرور، منذ بداية تاريخ البشر. فقايين قتل أخاه هابيل حسدًا، في مطلع تاريخ البشر؛ واسطفانوس أوّل الشّهداء قُتل رجمًا بالحجارة حسدًا، في مطلع العهد المسيحيّ. وكم من قتلٍ معنويٍّ بإفساد صيتِ شخصٍ وسمعتِه الحسنة ونجاحه حسدًا بالنميمة والتجنّي والأكاذيب! أمثال هؤلاء لا يجمعون مع المسيح بل يفرّقون ويبدّدون. وكذلك أولئك الذين يحرّضون على النزاعات والخلافات، ويزكّونها، ويعارضون محاولات التقارب والجمع والمصالحة، بل يعادون ويعارضون مَن يسعى إليها، كما نشهد عندنا في غالب الأحيان، ونقولها بأسف شديد.
ثمّ يؤكّد الرَّبُّ يسوع أنّ "كلَّ مملكة تنقسم على نفسها تخرب. وكلَّ مدينة أو بيت ينقسم على نفسه لا يثبت" (الآية 25).
أليس كلُّ عائلةٍ لا يحافظ فيها الزوجان أو أحدهما على العهد الزواجي تُصاب بالانقسام وفكّ الرِّباط الزواجي بالطلاق أو الفسخ أو البطلان أو بالهجر أو بكسر الحياة المشتركة. فيتحوّل الحبّ بغضًا، والسّعادة الزوجية بؤسًا؛ وتقع الصدمة النفسيّة على الأولاد؛ ويقوم عداء بين عائلتَي الزوجين، فيما الزواج، أراده الله الخالق، من أجل تقارب العائلات فيما بينها.
أليست الكنيسة نفسها، عندما تشبّث رعاتها وأبناؤها بآرائهم ومفاهيمهم اللاهوتيّة والعقائديّة، وانفصلوا عن تعليم السلطة التعليميّة التي يمثّلها رأس الكنيسة، خليفة بطرس على كرسي روميه، والمجمع المسكونيّ، سادها التمزّق والانقسامات. فكانت الحركة المسكونيّة، بصلوات وحوارات بين الكنائس، من أجل إعادة وحدتها كجسد المسيح الواحد.
كذلك كلّ دولةٍ تسودها الحروب الداخلية الأهلية، فإنّها تسقط وتتدمّر بيد أهلها. أمّا إذا حافظت على وحدتها استطاعت أن تنتصر على الحروب الخارجيّة.
هذه كلّها هي أبعاد تحذير الرَّبّ يسوع: "مَن ليس معي فهو عليَّ، ومَن لا يجمع معي فهو يُبدّد"(متى12: 30). هذا الكلام ليس فقط كلامًا روحيًا إنّما كلام اجتماعيّ، سياسيّ، إنمائيّ، إقتصادي. فليس الانجيل مفصولاً عن حياتنا اليوميّة إنّ هذا الكلام هو دعوةٌ إلى جمع الأضداد بالحوار، وإلى جمع المتخاصمين بالمصالحة. هذه الدّعوة ترفع من شأن كلّ إنسان يسعى إلى الجمع لا إلى التفرقة؛ إلى الحوار لا إلى التباعد؛ إلى المصالحة لا إلى النزاع.
البطريرك الراعي - موقع بكركي