من أنا؟ من هو؟ هل أعرفه؟ هل أعرف ذاتي؟ هذه الأسئلة، كما نعلم جميعًا هي أسئلة أساسية وفكّرنا فيها في لحظة معيّنة من تاريخنا الشخصي. وقد لا تزال تسكننا حتى اليوم. من أنا؟ من هو: شريكي، شريكتي، ابني، هذا الأخ، هذه الأخت، هذا الصديق، الله؟ هل أعرفهم، وهل أعرف ذاتي؟
الله، الذي يعرف إرميا، هو سنده ومعزيه. «قَبلَ أَن أُصَوِّرَكَ في البَطنِ عَرَفتُكَ.... لا تَخَفْ مِنُ وُجوهِهم فإِنِّي مَعَكَ لِأُنقِذَكَ، يَقولُ الرَّبّ» (إرميا1/ 4-5، 17 -19). في إنجيل لوقا (4/ 21 -30 ) على العكس، الذين يعرفون يسوع: أليس هو ابن يوسف؟ هم أنفسهم من يدفعونه خارج المدينة إلى حرف الجبل ليلقوه عنه.
القراءات تذكرنا بأمر نعرفه بشكل حدسي، لكننا ننساه في أغلب الأحيان: هناك طرق وطرق لمعرفة شخص ما، لمعرفة الذات، وتباعاً لهذه المعرفة، تختلف الثمار فيما بينها. الأب بيير فان بريمن « Pierre Van Bremen » يسوعي هولندي كتب بخصوص رهان كل إنسان ليكون مقبولاً، ومعترف عليه بطريقة عادلة وصحيحة، يقول:
«كل كائن إنساني يرغب بقوة أن يكون مقبولاً. مقبولاً كما هو. ما من شيء في حياة الإنسان، لديه تأثير مستديم وقاتل، أكثر من الخبرة بأن لا يكون مقبولاً بشكل كلي. عندما لا أُقبل، يُكسر فيَّ شيء ما... فالقبول يعني أن الناس الذين أعيش معهم يعطوني الشعور بالكرامة، الشعور بأن لديَّ قيمة.
إنهم سعداء أن أكون ما أنا عليه. القبول يعني أنني حرّ بأن أكون ذاتي... لست مقيداً بماضيَّ أو بحاضري... بمعنى آخر يمكن القول بأن القبول هو كشف. كل واحد منّا يولد مع إمكانيات عدّة. هذه الإمكانيات تبقى نائمة إلاَّ بحالة وجود حرارة قبول الآخر لي. القبول يحرّر كل ما هو فيَّ.
فقط عندما أكون محبوباً بهذا المعنى العميق للقبول الكلي، أستطيع أن أصبح ذاتي».
هذه الأسطر القليلة تجعلنا نشعر ما اختبره النبي إرميا في علاقته مع الله. « قَبلَ أَن أُصَوِّرَكَ في البَطنِ عَرَفتُكَ.... لا تَخَفْ مِنُ وُجوهِهم فإِنِّي مَعَكَ لِأُنقِذَكَ، يَقولُ الرَّبّ».
نعم إرميا اختبر على أنه مقبول بالعمق من قبل الله، معروف منه بطريقة مفتوحة، وهذا القبول حرّر فيه كل إمكانياته ودعاه لتجاوز مخاوفه. محبوب من الله، محبوب من الحبّ، يمكن لأرميا أن يصبح ذاته بالملء. على العكس، هذه الأسطر القليلة تجعلنا أيضاً أن نقترب مما كانت عليه الآم المسيح في مجمع الناصرة، غير مقبول من المقربين منه.
قد يكونوا يعرفونه، على الأقلّ كانوا يعتقدون ذلك ــــ أليس هو ابن يوسف؟ ــــ لكنهم لم يقبلوه، لم يكونوا يحبونه. معرفة الآخر بدون حب ليست بمعرفة حقيقية، ومعرفة الذات بدون حب ليست الحقيقة. «الحب والحقيقة يلتقيا»، يقول لنا المزمور (84).
المعرفة التي تُغلق في ملصق ما «ايتيكيت»، في المعروف جيداً، في الفشل أو في النجاح، في الماضي أو في الحاضر الجامد، هذه المعرفة باطلة. مستندين على رسالة القديس بولس إلى أهل قورنتس( 13/ 4 – 13) يمكننا القول: «لو لم تكن فيَّ المحبة، معرفتي باطلة، فلست سوى نحاس يطن أو صنج يرن».
مقابل هذا الرفض الذي كان من الممكن أن يكسر يسوع، مقابل عدم القبول الذي كان بإمكانه أن يمنعه من أن يكون ذاته، من المذهل أن نسمعه يؤكد بهدوء في وسط الناس «ما من نبي يقبل في وطنه» ويتابع طريقه، عابراً في وسط من يضطهدونه.
فحياة يسوع الخفية في هذه المدينة نفسها، الناصرة، تذكرنا بحب وقبول أبيه بالتبني، يوسف، حب وقبول أمه مريم. هذا الأمر يرسلنا إلى سرّ علاقته بأبيه، بمعموديته حيث سمع صوت الآب يقول له «أنت ابني الحبيب الذي عنه رضيت».
من هنا، معروف كلية، محبوب ومقبول كلية، استطاع أن يكون قوي بالكفاية لمواجهة تناقضات واضطهادات الذين كانوا يعتقدون أنهم يعرفونه. من هو الآخر؟ كيف أعرفه؟ يمكننا أن نتساءل إلى أي حد معرفتنا بهم مليئة بالرجاء، إلى أي حد تساعدنا أو لا بأن نكشف ذاتنا.
أو بمعنى آخر، إلى أي حد معرفتنا للآخرين مسكونة بالحب، إلى أي حد هي بكل بساطة حقيقية. هذه التساؤلات، يمكننا أن نطرحها بخصوص معرفتنا لذاتنا. فإنجيل لوقا يُذكّرنا بأن ما بقي فينا من غامض، أو غريب، أو غير محبوب بالكفاية، يمكنه بالتحديد أن يكون المكان المميز الذي يختاره الله لتصدو فيه البشرى السارة.
عندما لا نعرف كل شيء عنّا وعن الآخرين، عندما تبقى معرفتنا أو حقيقتنا مفتوحة، آنذاك نحن مستعدين لسماع البشرى السارة التي تأتي وتلتحق بما هو فينا لكنه إلى حد ما غامض أو أعمى أو أعرج أو غريب وينتظر مخلصه. «اليوم تمت هذه الكلمة على مسمع منكم»، إننا مدعوين للإيمان بها ولنا أيضاً.
على خطى إرميا ويسوع، لنكن متأكدين بأن الله يحبنا ويقبلنا بالفعل. حبه هو رجاءه فينا ويريد أن يحرّرنا، كل واحد، البعض والبعض الآخر، كل أبناء الله، جميعهم محبوبين من الله.
الأب رامي الياس اليسوعي.