"من تراه الوكيل الأمين الحكيم!" (لو12: 42)

متفرقات

"من تراه الوكيل الأمين الحكيم!" (لو12: 42)

 

 

"من تراه الوكيل الأمين الحكيم!" (لو12: 42)

 

 

  "من تراه الوكيل الأمين الحكيم!" (لو12: 42)  

                            

1. نبدأ في هذا الأحد أسابيع التذكارات الثلاثة. تتذكّر الكنيسة اليوم الكهنة والأحبار المتوفّين، ملتمسةً لهم السعادة الأبديّة في السماء لقاء أمانتهم وحكمتهم في إداء خدمتهم الكهنوتيّة المثلّثة: التعليم والتقديس والتدبير. فتطبّق عليهم كلمة الربّ يسوع، الموجَّهة إلى كلّ مسؤول في الكنيسة والعائلة والمجتمع والدولة: "من تراه الوكيل الأمين الحكيم!" (لو12: 42).

 

2. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيّا الإلهيّة، ونقدّمها لراحة نفوس الأحبار والكهنة الذين خدموا نفوسنا، وسبقونا إلى بيت الآب. ونذكر الأحياء الذين يواصلون الخدمة الكهنوتيّة المقدّسة، كي يؤدّوها بالأمانة والحكمة، على مثال الكاهن الأسمى يسوع المسيح. فهم باسمه وبسلطانه يقومون برسالتهم. ونصلّي من أجل ثبات الدعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة وتقديسها، ولالتماس المزيد منها من أجل تلبية حاجات الكنيسة في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الانتشار.

 

3. ويسعدني أن أرحّب بكم جميعًا، وبخاصّة بلجنة إدارة "مائدة المحبّة" في مطرانيّة جبيل المارونيّة، برئيستها السيّدة منى نعمه والأعضاء، وبالأصدقاء والأهل والمساندين "لمائدة المحبة"، الذين نصلّي على نيّتهم في هذه الذبيحة المقدّسة، ليكافئهم الله بفيض من نعمه وبركاته، ويذكي شعلة المحبّة الإجتماعيّة في القلوب. ونرحّب بالنّقيب أنطوان اقليموس رئيس الرّابطة المارونيّة. ونحيِّي بيننا عائلة المرحوم ميلاد الغزال معوّض، زوجته وابنَيه وابنتَيه وأنسباءهم. وقد ودّعناه معهم بكثير من الأسى، منذ حوالي شهرَين. نصلي لراحة نفسه، وقد اتّسع قلبه وسخت يده لأعمال المحبّة، ونجدّد تعازينا الحارّة لأسرته العزيزة الّتي تواصل خطّه في مجالات المحبّة الإجتماعيّة.

 

4. إنّنا نفتتح في مساء هذا اليوم، هنا في كنيسة الكرسي البطريركي، أسبوع الصّلاة من أجل وحدة المسيحيين، وهو بعنوان: "يمينك يا رب قديرة قادرة"، المستوحى من سفر الخروج (15: 6). إنّ الصّلاة الّتي تقام طيلة الأسبوع في جميع كنائس الأرض، تلتمس نعمة الله القديرة، القادرة على مسّ العقول والقلوب والضمائر، لتحريكها في نور الحقيقة والمحبّة اللّتين تبنيان الوحدة بين المسيحيّين. فالمسيح وحده قادر على تحصين كنيسته، الّتي اقتناها بدمه، بوجه كلّ ضلال ونزاع وانقسام. لكنّ قدرته هذه تنتظر منا الإيمان بها، فنسعى جاهدين، وبالإتّكال عليها، إلى بناء وحدتنا والمحافظة عليها وتجاوز كل أسباب الخلافات الّتي تمزّق جسد المسيح الواحد الّذي هو الكنيسة.

 

5. إنّ المسؤوليّة الأولى تقع على رعاة الكنيسة، المؤتمنين كوكلاء من المسيح على إعطاء أبنائها وبناتها ومؤسّساتها، "طعام" الحقيقة والمحبّة والوحدة. فهم مدعوّون ليتجاوزوا كل أسباب الإنقسام اللاّهوتيّة والشّخصيّة والسّياسيّة والقوميّة. فلا يمكن أن نبشّر بالمسيح الواحد والإنجيل الواحد والكنيسة الواحدة، ونحن منقسمون، ونستمرّ في انقسامنا، من دون السّعي الجدّي إلى شدّ أواصر الوحدة. لقد ربط الرّب يسوع وحدة المؤمنين به بمصداقيّة الإيمان بسرّه كرأس للجسد الّذي يجمع كلّ أعضائه في سرّ الكنيسة الواحدة الجامعة، وبمصداقيّة وصيّة المحبّة الّتي تعلو كل اعتبار، عندما صلّى صلاته الكهنوتيّة للآب: "يا أبتِ، ليكونوا واحدًا، كما نحن واحد، أنت فيَّ وأنا فيك، ليؤمن العالم أنّك أنت أرسلتني، وأنّك أحببتهم كما أحببتني" (يو 17: 21-23).

 

6. عندما نتحرّر من ذواتنا، ومن مصالحنا الخاصّة عندما تكون على حساب الصّالح العام، وعندما نتحرّر من انقساماتنا بقوّة الحقيقة والمحبّة والمصالحة، نستطيع العمل على تحرير الآخرين من الظّلم والإستعباد والإستبداد والعنف والفقر والحرمان والإتجار بالبشر، وتحرير سواهم من الألم والبؤس والقلق، ومن الإنحراف في مجالات الإدمان على المخدّرات والسّكر والعيش المخلّ بالأخلاق والآداب. وعندها نستطيع أن نحيي الرّجاء والشّجاعة في القلوب.

 

لقد آلمتنا، كما الجميع، مأساة الأربع عشر ضحيّة من الإخوة النّازحين من سوريا الّذين قضوا من البرد والصّقيع، فيما حاولوا الدّخول إلى لبنان بطريقة غير شرعيّة. إنّها مسؤوليّة الأسرة الدّوليّة الّتي لا تريد إيقاف الحروب وإحلال السّلام في سوريا وبلدان المنطقة، وتكشف يومًا بعد يوم أنّها غير معنيّة بالكائنات البشريّة وبسلامة المواطنين وحقوق عيشهم الكريم في أوطانهم.

 

أمّا لبنان، مع كلّ أزماته السّياسيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة، فيبقى، كما كتب عنه القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني في إرشاده الرّسولي "رجاء جديد للبنان"، "يلبّي دعوته بأن يكون نورًا لشعوب المنطقة، وعلامةً للسّلام الآتي من الله" (الفقرة 125).

 

7. "من تراه الوكيل الأمين الحكيم!" الكاهن وكيل يعمل باسم وسلطان موكِّله، يسوع المسيح، الكاهن الازلي، "وراعي الرعاة العظيم" (1بطرس 5: 4). إنّه ينوب عنه ويمثّله في قلب الجماعة. ليس الكهنوت رتبةً اجتماعيّةً أو سلطةً مدنيّةً. بل هو سلطان إلهيّ. يمنحه يسوع للكاهن، من دون أي استحقاق منه. فعلى كلّ مؤمن أن يرى في كاهنه صورة المؤتمن على كلام الحياة ونعمة أسرار الخلاص. وعلى الكاهن أن يعي دائمًا أنّه "وكيل" تسلّم المسؤوليّة من المسيح، وله يؤدّي حساب خدمته.

 

8. يشترط الرّب يسوع أن يكون الكاهن ذا فضيلتين: الأمانة والحكمة. الأمانة هي للمسيح الذي دعاه، وللكنيسة التي منحته الكهنوت وأشركته في رسالتها، وللجماعة المؤتمن على خدمتها. الأمانة تقتضي أن يتحلّى الكاهن بالإيمان والتقوى والضمير الحيّ. لا يمكن للكاهن أن يمارس خدمته بحسب قلب المسيح، إلاّ إذا كان أمينًا لتعليم الكنيسة والطاعة للسلطة الكنسيّة وقرارتها. فطاعته مصدر قوّة له.

 

9. أمّا الحكمة، وهي أولى مواهب الرّوح القدس السّبع، فتتّصف بالمسلك الفطن والواعي، بحيث يتجنّب الكاهن ما يستوجب الّلوم من الله والنّاس، وما يولّد عندهم الشّك. والحكمة نور من الرّوح القدس يساعد الكاهن على اتّخاذ قراراته، وتنفيذ أعماله، والقيام بمبادراته وفقًا لإرادة الله، ونيّة المسيح والكنيسة، ومن منظارهم.

 

10. هذا الكلام الإنجيلي عن الكاهن "كوكيل متّصف بالأمانة والحكمة"، إنّما ينطبق على كلّ مسؤول: على الزّوجين والوالدين في العائلة، وعلى المسؤولين المدنيّين والإداريِّين في المجتمع، وعلى السّلطة السّياسيّة في الدّولة. إنّنا نذكرهم جميعًا بصلاتنا اليوم، كي يدركوا أنّهم وكلاء لا أرباب، خدّام لا أسياد، وأنّهم مؤتمنون على تأمين الخير العام لا خيرهم الشّخصي فقط ومصالحهم الفئويّة. عندئذٍ نستحقّ جميعًا ثواب "الوكيل الأمين الحكيم الّذي يقيمه سيّده على كل مقتنياته" (لو 12: 14)، فيشركنا بحياته الإلهيّة والخلاص الأبدي.

 

وإنّا نرفع نشيد المجد والتّسبيح لله الآب والإبن والرّوح القدس الّذي يشركنا بسرّ حقيقته ومحبّته، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

 

عظة الكردينال البطريرك مار بشاره بطرس الراعي - تذكار الكهنة - بكركي