عندما بدأ يسوع رسالته، كان يُعلن فيقول: «حان الوقت، وأقترب ملكوت الله» (مر 1: 15؛ متى 4: 17). وعندما دعا تلاميذهُ ليرسلهم لأوّل مرّة، قال لهم: «أعلنوا في الطريق أن قد اقترب ملكوت السَّموات» (متى 10: 7).
نحن اليوم في الألفيّة الثالثة ويبدو لنا ملكوت الله بعيد المنال أكثر من أيّ وقتٍ مضى. لا سيّما في الشرق الأوسط حيث تتزايد الصراعات وتبدو مظاهر الكراهية والدّمار أكثر وضوحًا من ملكوت الله.
ونشعر بالرّغبة في طرح السؤال نفسه الذي طرحه الرّسل على يسوع قبل ارتفاعه: «يا ربّ، أفي هذا الزمن تُعيدُ المُلك إلى إسرائيل» (أع 1: 6) وإلى العالم؟ هذا الملكوت الذي يُشكّل فيه البشر أسرَة واحدة، دون تفريق بين العرق، أو الطبقة الاجتماعيّة أو الدين؛ هذا الملكوت حيث تُحترَم حقوق الإنسان ويمكن لكلّ شخص أن يعيش دون خوفٍ من الغد.
لا يوجد فقط البذور الجيّدة، فهناك أيضًا الزؤان. ملكوت الله يبدو بالكاد مرئيًّا، كَمثل أصغر البذور وكَمَثل القليل من الخميرة في العجين.
لا يمكن أن يزرع الله سوى البذور الجيّدة؛ وما يُثير الدهشة أنّ العالم مليء بالزُؤان: قوّة تسعى لتدمير ملكوت الله هذا، وجذورها هي شهوة التسلُّط والتعطش إلى المال. خلال فترة وجوده في الأراضي المقدّسة، صلّى البابا فرنسيس من أجل اهتداء كبار زارعي الزُؤان في الصراع القائم في الشّرق الأوسط، المُصنّعين وبائعي الأسلحة. وانتقد مؤخّرًا المافيا وزعمائها في إيطاليا الجنوبيّة، قائلًا أنّه لا يُمكن لمن يقتُل ويسرق أن يكون في شركة مع الكنيسة.
كيف يمكننا محاربة العدو؟ هل علينا انتزاع الزؤان؟ ولكن ذلك قد يؤدّي إلى اقتلاع الزّرع الجيّد وتخريب الحصاد. يمكننا بالتأكيد أن نفصل الجداء عن الخراف، كما في يوم الدينونة (متى 25: 32)؛ لكن كيف يمكن فصل الأبرار عن الأشرار؟ لا يوجد شخص سيّئ لا يحمل في داخله شيئًا حسَنًا؛ ولا يوجد شخصٌ جيّد ليس فيه جانبٌ سيِّئ! على سبيل المثال، الأشخاص الذين ينتمون إلى المافيا هم من "المؤمنين جدًا" ونجد صور السيّدة العذراء الفائقة القداسة في مكاتبهم!
مَن منّا لا يحمل في داخله البذار الجيّد والزُؤان؟ في أيّ جانب سنكون يوم الدينونة، بجانب البذار الجيّد أم الزُؤان؟ فقط في اعترافنا بحاجتنا إلى الاهتداء، يمكن للعالم أن يتغيّر. فقط في اعترافنا بأنّ روح الله يئِنُّ داخل كلّ إنسان مخلوق من الله (روم 8: 26-27)، سنكون قادرين على بناء ملكوته.
لهذا السبب، فإنّ السِّلاح الذي في يد الله للمضيّ قُدُمًا في بناء الملكوت هو الصّبر والغفران. يُجيب ربُّ البيت الذين يُريدون اقتلاع الزُؤان: أعطوه الفرصة حتى نهاية الأزمنة، فرُبّما يهتدي الشّرير. «وبما أنّكَ تسود الجميع فأنتَ تُشفق على جميع الناس... أمّا أنتَ يا ربّ، فإنكَ تسودُ قوّتكَ فتحكم بالرفق وتسوسُنا بكثيرٍ من المُراعاة» (حك 12: 16-18). وبدلًا من أن تقطع وتحرق، تحاول تغيير قلب البشر بالمحبّة، لأنّ «البارَّ يجب أن يكون صديقـًا للناس» ؛ وتُعطي لأولادكَ الرّجاء بأنّهم بعد أن أخطأوا ستمنح لهم التوبة والغفران ( حك 12: 19).
أعلمُ جيّدًا أنّ كلّ تساؤلاتنا حول الشرّ في العالم ووجود الزُؤان لن يتمّ حلّها هكذا. لكن الشّفاء لن يحصل إن لم نتصرّف على مثال المعلّم، الذي «لم يأتِ لإزالة المُعاناة، ولا حتى ليُفسّرها، ولكن ليملأها بحضوره وبمحبّتهِ» (بول كلوديل).
بين مثَل الزُؤان وتفسيره، يحكي يسوع مَثَلًا آخر عن ملكوت السّموات. إنّه كمَثَل أصغر البذور، حبّة الخردل. إنّها صغيرة كرأس الدبّوس، لكنّها تحتوي على إمكانيّة خفيّة تجعلها تُصبح شجرة كبيرة تجعلها ملجأ للبشر والحيوانات، للصّالحين والأشرار.
أو أيضًا، الملكوت مُختبئ في عمق الواقع البشريّ كالخميرة في العجين؛ لكنّه بفضل اختبائه وعجنهِ في هذا الواقع، فإنّه قادرٌ أن يرفع المجتمع البشريّ بأكمله ليحوّله إلى خبزٍ يأكله الأخيار والأشرار.
ملكوت الله وحصاده هما لهذا اليوم الحاضر (متى 6: 33-34)؛ إنّ ملكوته بيننا (لو 17: 21)، بالرّغم من الزُؤان وبالرّغم من صغر حجم البذرة ووضعها المخفيّ. إنّ صبر الله وغفرانهُ موجودان في قلب الإنسان، صالحًا كان أم شرّيرًا، وقوّة الله القدير تكمن في رحمته. لا تخَف أيّها القطيع الصغير، عيشوا في الرّجاء واقطفوا ثمر البذار الصّالح الموجود في قلب كلّ إنسان.
الأب هانس بوتمان اليسوعيّ