مع أنّ حدث العنصرة كان التحقيق النهائيّ "لوعد الآب" (لو24: 48) بإرسال روحه على أبنائه وتلاميذ إبنه، إلّا أنّه مع ذلك ليس نهاية المطاف وإنّما بدايته المتجدّدة باستمرار! فعاصفة الرّوح القدس التي ملأت الرُّسل المواظبين على الصَّلاة بقلبٍ واحدٍ مع بعض النسوَة ومريم أمّ يسوع ومع إخوته (أع 1: 14) داعية إيّاهم للقاء "جميع الأمم" (متى 28: 19) على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم (أع 2: 9-11) ونشر شعلة المحبّة في الحقيقة المحرّرة والمخلصة من كلّ زيف وشرّ، هذه العاصفة القدّسية لا تزال تعصف بنا اليوم أيضًا، تارة كنسيمٍ هادئ (مثل ظهور الربّ الوديع للرسل ونفخه فيهم روحه في إنجيل اليوم) وتارة أخرى كدويّ ريح شديدة (على غرار ما حدث مع الرسل في رواية سفر الأعمال) فاتحة أمامنا الأبواب والنوافذ وداعية إيّانا للخروج من قواقعنا ومخاوفنا (يو20: 19) والانطلاق للقاء الآخر، مَن كان وأين كان، بعد أن صار لنا بالمسيح أخًا وأختًا حقيقيّين.
الحقّ يقال أنّه مع إرسال الآب روحَ ابنه على أبنائه البشر وإلهابه قلوبهم بنار المحبّة الإلهيّة، لم يعد من المسموح لأحد البقاء منغلقـًا على ذاته وعلى ثقافته وخصوصيّته، كما لم يعد من الممكن للعنة الانعزاليّة أو الشلليّة الفئويّة والطائفيّة أن تبقى هي السائدة في بيوتنا ومجتمعاتنا! فانفتاح قلب الله الذي جرى بشكلٍ لا رجوع عنه بفعل انفتاح قلب يسوع المطعون حبّا على الصَّليب، أفاض على العالم سيول المحبّة الإلهيّة الغافرة وجميع طاقات الحياة الأبديّة التي يمكن لقلوبنا المخلوقة أن تستوعبها!
ولكن أين كلامنا هذا من واقعنا الحالي؟ فواقعنا يعكس أغلب الأحيان صورًا رهيبة من الموت والحقد والعداوة والنزاع (غلا 5: 20) وجدران الفصل حتى بين أعضاء العائلة الواحدة نفسها؟! أترانا نتكلّم عن مجرّد حلم جميل حدث مرّة ثمّ بات يراودنا بين الفينة والأخرى خصوصًا حينما نلمح طيف ابتسامة أو لمسة حنان أو نظرة تعاطف أو صلاة صادقة؟!
لا شكّ أنّ الواقع ليس على الدوام ورديًا، ووحده يُظهر بشكلٍ لا غبار عليه مرارة الواقع وشرّ الخطيئة وزيف البشر ذاك الموت المريع الذي قضى على البارّ القدوس يسوع (أع 3: 14) الذي كان يحسن إلى الكلّ ويعمل الخير بلا حساب (أع 10: 38). بيد أنّ الله بسابق علمه قضى (أع 2: 23) أن يصير ذاك الموت بالضبط الأداة التي تنجز المستحيل! فروح الآب الذي لطالما اقتاد الابن وحرّكه، بات من الممكن وقد أسلمه الابن لأبيه على الصَّليب أن يُوهب لكلّ إنسان بلا استثناء؛ في حين نجح الابن بثمن حياته ودم قلبه أن يخلص بنيّ البشر من موت الخطيئة معدًّا إيّاهم لقبول هبة الرّوح، روح المسيح الذي "بشّر بالسَّلام"، لا بل صار هو نفسه "سلامنا" (أف2: 14) ومشيّد حضارة المحبّة والمصالحة بنفخة روحه الخالق الغافر لكلّ من يقبله (يو20: 23).
يوم حلّ الروح القدس على البشر، ما كان يُعدّ بشكل طبيعيّ في حكم المستحيل بات حقيقة، وما كان مجرّد حلم صار واقعًا؛ المحبّة التي كانت تضرم قلب الربّ يسوع وكم تشوّق ليلقيها على الأرض (لو 12: 49) باتت من الآن فصاعدًا تضطرم في القلوب وتدفع الرسل للتواصل مع الناس أجمعين بلغاتهم الخاصّة وإذاعة عجائب الله (أع2: 11)؛ والحياة الأبديّة التي كان الابن يفيض بها فيضًا راحت تتدفّق في شرايين الرسل وفي أعضاء "الذين يؤمنون عن كلامهم" (يو17: 20) بأنّ "يسوع ربّ" (1كور12: 3)، جاعلةً منهم "على كثرتهم جسدًا واحدًا" يحرّكهم "روح واحد" (1كور12: 13).
ويكفي أن نتأمّل في سفر أعمال الرسل لنرى ما لم يكن بإمكاننا من قبل حتى تخيّله! يا له من أمرٍ مذهل حقـًا أن تجد أناسًا ما إن يؤمنون بالربّ يسوع ويقبلون روحه حتى يتخلّون عن أملاكهم في فعل محبّة وتجرّد ولا أعظم ليضعوها مع أشخاصهم ومواهبهم في خدمة "الخير العام!" (1كور12: 7) يا لروح المشاركة التي باتت تحيي الكلّ وتجعل "كلّ شيء مشتركًا بينهم وما من أحد منهم يقول إنّه يملك شيئا له!" (أع 4: 32).
فحلم الوحدة والشركة الشفافة مع الجميع صار ثمرة ولا أروع من ثمار قبول روح المحبّة والتواصل الذي أمام قوّته الوديعة الحنون لا يمكن لحواجز العداء والحذر المتبادل إلّا أن تنهدم انهدامًا لا رجعة إليه "لأنّ الذين آمنوا صاروا فعلا قلبًا واحدًا ونفسًا واحدًا" (أع 4: 32).
حقـًا إنّه لنظام جديد! فالعالم القديم القائم على التهافت والتصارع على الأملاك والمقتنيات، على الهيمنة والأنانيّة، على الترفّع والتعالي، قد سقط وكان سقوطه عظيمًا (متى 7: 27) وبدلا منه بالمقابل ولد عالم جديد قائم على روح المشاركة والأخوَّة في البذل والخدمة والتواضع.
فأمّا الكنيسة (جماعة تلاميذ يسوع المؤمنين حقـًا باسمه، السَّالكين بقوّة محبّته سلوكه والسَّائرين بهدي روحه على خطاه) فبقدر ما تنفتح على الرّوح القدس الواحد وتتجاوب بأمانة مع عمله المحوّل الخلّاق فبالقدر نفسه تصير باكورة عالم التواصل الجديد ذاك والشّاهدة بتواضع لحضوره والداعية التي لا تكلّ إليه. فالرّوح على حدّ قول القدّيس باسيليوس الكبير "هو من يُتمّ أعمال الله بما يقيم بينها من التواصل، من أقصى العالم إلى أقصاه، ومن البداية إلى النهاية. وهو صلة الوصل بين الأشخاص الإلهيّين (الآب والابن) والبشريّين (في الكنيسة)، وهذا ما تقوم عليه القداسة: فهي تنشئ الصِّلات. والرُّوح هو قدوس لأنّه يهدي إلى هذا النظام الجديد والنهائي الذي جاء به يسوع إلى الأرض، ألا وهو نظام المحبّة".
أترانا اليوم، وعالمنا تغمره الأزمات من شتّى الجهّات، نعي - نحن المؤمنين بالمسيح حيًّا في وسطنا- أنّه ما من شيء يمكنه أن يُصدّق على شهادتنا له إلّا روح المسيح نفسه عبر ما يثمره في حياتنا اليوميّة من "المحبّة والفرح والسّلام والصبر واللّطف وكرم الأخلاق والإيمان والوداعة والعفاف" (غلا 5: 22-23)؟
أترانا ندرك توق الإنسان المعاصر ليلتقي أشخاصا وجماعات يحيون نظام المحبّة الجديد ذاك، يحرّكهم روح مشاركة وتواصل حقيقي يجعل العنصرة حدثًا آنيًا وعيدًا متجدّدًا؟!