الأمر خطيرٌ للغاية والقضيّة فريدةٌ جدًّا! فليس أمرًا معتادًا ظهور إنسانٍ يتصرّف تصرّفًا مغايرًا للمألوف، ويتحدّث بلهجةٍ مختلفة داعيًا الناس لتغيير حياتهم بشكلٍ جذريّ وتقبّل معموديّة توبة والتحضّر لاستقبال شخصٍ آخر تحدّثت عنه النبوءات وعاش بانتظار قدومه الأجداد والآباء: يسوع!
ماذا يفعل لوقا الإنجيليّ (لو 3/ 1-6) ليجعلنا ندرك أن تلك الأحداث التي أضحت موضع جذبٍ وتساؤل ليست أسطورة وإنّما حقيقة حاسمةً للغاية ستغيّر مجرى التاريخ العالميّ بأسره؟ لا يجد لوقا المؤرّخ سبيلاً أقصر من سرد الأحداث عبر وضعها بدقّةٍ وبشكلٍ رسميّ في سياقها التاريخيّ والزمنيّ!
فما سيقوم به يوحنّا المعمدان تمهيدًا لمجيء يسوع سيؤثّر على كثيرين وسيصل صداه عبر أنحاء الإمبراطوريّة الرّومانيّة الواسعة إلى القيصر طيباريوس، وإلى حاكم اليهوديّة بنطيوس بيلاطس وأمرائه هيرودس وفيلبس وليسانياس، ولا شكّ أيضًا لعظيمَي الكهنة حنّان وقيافا.
إنّها أسماءٌ لأناسٍ عظامٍ تَبَوَؤا مناصب كبيرة ولا شكّ، والتاريخ لم ينسهم، بيد أنّ صوت المعمدان الفقير والآتي من قفر الصّحراء سيغيّر مجرى التاريخ أكثر بما لا يُقارَن مع ما عمله الأباطرة وأصحاب السلطات في سعيهم لإدراة الشّعوب وإخضاعها، وغالبًا عن طريق القوّة والتّصارع بشراسةٍ مع شعوبهم أو فيما بينهم.
أمّا يوحنّا، ابنٌ لشخصٍ مغمورٍ يدعى زكريّا، فلا يتكلّم باسمه الشخصيّ ولا باسم والده أو عشيرته، ولا حتّى باسم سلطةٍ سياسيّة ما. لكنّه يحمل رسالةً أتته من العليّ؛ فإليه توجّهت "كلمة الله" وعبره أضحت موجّهةً إلى جميع الناس من كلّ الشعوب واﻷجناس. يوحنّا سوف يعطي بشخصه وصوته نبض الحياة لكلمةٍ حاولت نبوءات شعب إسرائيل تلمّس ملامحها، وكانت تنتظر بفارغ الصبر ساعة تحقيقها.
أمّا المكان حيث تظهر هذه الكلمة فمهمٌ هو أيضًا: إنّه الصّحراء؛ مجالٌ قفرٌ مُخيف يتحاشى الإنسان العبور فيه، مع أنّه مجاورٌ للمناطق المأهولة؛ لا عجب، فالصمت المخيّم هناك يدعو للمغامرة الشخصيّة والعودة إلى مجال الذات الداخليّ.
يمكننا أن نلاحظ بسهولةٍ أنّ التحفّظ الذي يُرافق وصف لوقا للمعمدان يفترق تمامًا عن استفاضة الإنجيليّين الآخرين في وصفه: فلا إشارة لفقر ثيابه ولا لطعامه الشّحيح أو ما شابه. فهدف الإنجيليّ من وصفه الرّصين ذاك هو تركيز انتباه القارئ لا على يوحنّا بذاته بل على الكلمة التي كُلّف بنقلها.
كما أنّ مهمّته لا تقوم على مواجهة كبار رجال السياسة والدين المذكورين، بل على إفساح المجال للكلمة التي يحملها لتفعل فعلها في دفع الناس لأخذ موقفٍ بإزائها. وهي ستواصل مخاطبة الناس حتّى حينما يُسكتون الصوت الذي جعلها تتردّد على مسامعهم؛ إذ بسماع يوحنّا سابِق الربّ "يعاين كلّ بشرٍ خلاص الله".
إنّ الكلمة التي يعلنها يوحنّا ستظهر بشكلٍ منظور، والخلاص الذي تحمله سيدركه كلّ إنسانٍ ذي إرادة صالحة. وهذا هو جديد البُشرى السارّة: أن تأتي كلمة الخلاص بهيئة إنسانٍ يمكننا رؤيته وسماعه ولمسه وحبّه.
غير أنّه لا يمكننا تقدير ما ستُحدثه من تغييراتٍ شاملة - إذ ستنتشر انتشار النّار في الهشيم معلنةً في كلّ مكان ولكلّ إنسان بلا استثناء رسالة السّلام والفرح والمُصالحة – إلاّ حينما نرى أبناء الله المشتّتين بسبب ظلمات خطاياهم يلتمّون بفضل كلمة الله تلك "من مشرق الشمس إلى مغربها"، فيبتهجون "بذكر الله" الذي يعيدهم إليه ولذواتهم "محمولين بمجدٍ كعرشٍ ملكيّ" (سفر باروك 5/ 1-7).
إنّ الرسالة النبويّة التي تقع على عاتق يوحنّا، تدفعه ليقترب من النهر حيث "ينادي بمعموديّة توبة". وللوصول إلى النهر المتدفّق على حافة الصّحراء، كان على يهود الأيّام تلك أن يتركوا طرقهم المعهودة وسلوكهم المعتاد، ويقبلوا بمبادرة شخصٍ آخر، وهو ما يفترض أن يثقوا بيوحنّا و"بكلمة الله التي كانت موجَّهة إليه".
فبالنسبة لهم كما هو الحال بالنسبة لنا، تبدأ التوبة حينما نقرّر الخروج من طرقنا المعوجّة لنعرّض أنفسنا بثقةٍ لنداءات الرّوح الذي ينطق عبر الأنبياء. أمّا تلك النداءات فهي "صوتُ منادٍ في البرّية": فليست الكلمات المنمّقة ودلالاتها هي ما يهمّ بل الحجم الصوتيّ ليوحنّا الذي ينادي ويؤيّد أو يعارض.
وصرخة الصّوت تنطلق كالسّهم قدّام الشّخص الآتي لتعدّ له الطريق، فتعبر جميع الحواجز التي كنّا أقمناها لنحتمي من الله والآخرين.
فالوديان والجبال والتلال تشكّل عقباتٍ على طريق الرّغبة الشّديدة التي أيقظها صوت السّابق، بيد أنّ من يزيل تلك العقبات هو (اللّاحق) "الذي يأتي من بعد": لأنّ الله قرّر أن يخفض الجبال العالية والتلال الأبديّة، وهكذا يتمّ ردم الوديان وتسوية الأرض وتقويم الطرق المنعرجة، فيتمكّن المؤمنون بالله من أن يسافروا بأمانِ الله "من مجدٍ إلى مجد".
التوبة تقوم في الإعتراف الشفّاف بفقرنا وعجزنا من تلقاء أنفسنا على تقويم حياتنا، فنفسح المجال لاستقبال مبادرة الله القادر وحده على إنقاذنا.
أن نتوب، يعني أن نقبل أن يضيء الله بنور حبّه الفادي محنة وجودنا المكتئب. إنّها ليست شيئًا آخر سوى رفع العقبات التي تمنعنا من استقبال "خلاص الله" الحيّ، وتحول بيننا وبين مخلّصنا الآتي للقيانا، فنقدّم له حياتنا بكلّ ما فيها من أنوارٍ وظلال.
التوبة هي الطريق الملكي الذي اقترحه علينا يسوع، وهو يقوم على التخلّي عن اكتفائنا بذواتنا والإعتراف بأنّنا أخطأنا ونشارف على الموت الروحيّ ولا حياة حقيقيّة لنا إلاّ به هو وحده: حياتنا ورجاؤنا.
فتوبةٌ حقيقيّة كهذه يمكنها أن تحرّر طاقات المحبّة فينا: محبّة متجسّدة "في الحقيقة" للمسيح ولإخوتنا البشر كائنًا من كانوا. فكلّنا ننتمي لأبٍ واحد و"بازدياد محبّتنا أكثر فأكثر في كلّ تبصّرٍ ومعرفة نميّز الأفضل" في اختياراتنا و"نصبح سالمين لا لوم علينا" في سعينا للقاء المسيح الآتي (فيليبي 1/ 4-11).
إنّ طريق الميلاد هو طريق حبّ ٍ بلا حدود، والمناولة التي نشترك بها هي استقبالنا نحن التائبين المتّحدين في المحبّة للربّ الآتي ليسكن فينا، وأمّا خروجنا من الكنيسة فهو خروج الربّ معنا لمشاركة كلّ إنسانٍ بالبشرى الأحلى والأسعد على الإطلاق، ودعوته معنا إلى عرس الحمل حيث يشركنا الآب بفرحه الأبديّ بعد أن "يخلع عنّا ثوب الحزن والشقاء ويلبسنا للأبد بهاء مجده، مسربلاً إيّانا برداء صلاحه الإلهيّ ومكلّلاً رؤوسنا بتاج مجده الأَزلِي" مهيّئًا إيّانا كعروسٍ لا شهوة أخرى لها سوى الاقتران الكامل بعريسها الأزليّ: كلمته الوحيد الآتي للقائنا في سرّ تأنّسه المعجز لأجلنا، عساه ينجح – إن شاركناه بحريّتنا – في تحقيق مبتغاه بتحويلنا باستمرار على صورة مجده إلى ألوهيّته المؤنسِنة بلا حدودٍ لإنسانيّتنا المحطّمة!
ألأب غسان السهويّ اليسوعي.