أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
لقد سمعنا أولى الوصايا العشر: "لا يَكُنْ لَكَ آِلهَةٌ أُخْرى تُجاهي" (خر 20، 3). وهنا يحسن التوقّف عند موضوع الصنمية لكونه في غاية الأهمّية والآنية.
الوصيّة تحظر صنعَ الأصنام[1] أو الصور[2] من أيّ واقع كان[3]: فكلّ شيء في الواقع يمكن أن يُستخدم كصنم. نتكلّم هنا عن ميل بشريّ، لا يستثني أحدًا من مؤمنين أو ملحدين. وعلى سبيل المثال، يمكننا أن نتساءل نحن المسيحيّون: مَن هو إلهي في الحقيقة؟ هل هو الإله الواحد والثالوث، إله المحبّة أم هو صورتي، نجاحي الشخصي، حتى داخل الكنيسة؟ "لا تقتصر الصنميّة على الطقوس الوثنية الخاطئة. إنها تجربة دائمة للإيمان. وهي تتمثل في تأليه لما ليس بإله" (التعليم الديني للكنيسة الكاثوليكيّة، عدد 2113).
وما هو الإله على المستوى الوجودي؟ هو ما يكمن في محور الحياة الشخصيّة، وعليه نعتمد في كلّ ما نصنع وما نفكّر[4]. يمكننا أن ننشأ بالاسم في أسرة مسيحيّة ولكنّها تعتمد في الواقع على نقاط مرجعيّة لا صلة لها بالإنجيل[5]. إن الكائن البشري لا يستطيع يحيا دون الاعتماد على أمر ما. وها العالم يقدّم لنا "سوق" الأصنام التي يمكنها أن تكون أشياء أو صورًا أو أفكارًا أو أدوارًا. حتى الصلاة، على سبيل المثال، علينا أن نصلي إلى الله، إلى أبانا.
أتذكر عندما ذهبت إلى رعية في إيبارشية بوينس آيرس للاحتفال بالقداس ثم اضطررت إلى منح سر التثبيت في رعية أخرى على مسافة كيلومتر واحد. فذهبت مشيًّا عابرًا إحدى الحدائق الجميلة. ولكن في هذا المنتزه، كان هناك أكثر من 50 منضدة تحتوي كل منها على كرسيين والناس يجلسون أمام بعضهم البعض. ماذا يفعلون؟ يلعبون ورق التارو. لقد ذهبوا إلى هناك ليرفعوا "الصلاة" إلى صنم. بدلاً من الصلاة إلى الله الذي يعتني بالمستقبل، ذهبوا إلى هناك لقراءة الأوراق لرؤية المستقبل. إن هذا يمثل في عصرنا عبادة الأصنام. أسألكم هنا: كم منكم ذهب ليقرأ له أحد الأوراق حتى يرى المستقبل؟ وكم منكم، على سبيل المثال، ذهب لقراءة اليد ولرؤية المستقبل، بدلاً من الصلاة للرّبّ؟ هذا هو الفرق: بين الرّبّ حيّ، والأصنام الأخرى، إنها الصنمية التي لا تنفع شيئًا.
كيف تتطوّر الصنميّة؟ الوصيّة تصف مراحل: "لا تَصنَعْ لَكَ مَنْحوتًا ولا صورةَ / [...] لا تَسجُدْ لَها / ولا تَعبُدْها" (خر 20، 4- 5).
كلمة "صنم" باللغة اليونانيّة تنحدر من الفعل "يرى"[6]. الصنم هو "رؤية" تميل لأن تصبح فكرة دائمة، هاجس. الصنم هو في الواقع انعكاس لأنفسنا نقوم به على الأشياء أو في المشاريع. وتُستخدم هذه الديناميكيّة، على سبيل المثال، في الإعلانات: لا أرى الشيء بذاته إنما ألاحظ تلك السيّارة، أو ذاك الهاتف الذكي، أو ذاك الدور –أو أمور أخرى- كأداة لتحقيق الذات وتلبية احتياجاتي الأساسيّة. وأبحث عنه، أتحدّث عنه، أفكّر فيه؛ ففكرة امتلاك ذاك الشيء أو تحقيق ذاك المشروع، أو التوصّل إلى ذاك المركز، يبدو وسيلة رائعة للسعادة، برجًا لبلوغ السماء ( تك 11، 1- 9)، وكلّ شيء يصبح عمليًّا مسخرًا لبلوغ هذا الهدف.
ندخل بالتالي في المرحلة الثانية: "لا تَسجُدْ لَها". الأصنام تتطلّب عبادة، وطقوس؛ فلها يُسجَد ومن أجلّها يُضحّى بكلّ شيء. في الماضي، كانوا يقومون بتضحيات بشريّة للأصنام، ولكن اليوم أيضًا: من أجل النجاح المهنيّ يتمّ التضحية بالأبناء، فيُهملون أو ببساطة يمتنعون عن الإنجاب؛ والجمال يتطلّب تضحيات بشريّة. كم ساعة اقضيها أمام المرآة! كم ينفق بعض الأشخاص، وبعض النساء، على مستحضرات التجميل؟ إن هذا هو أيضًا عبادة الأصنام. ليس أمرًا سيئًا وضع الماكياج، ولكن بطريقة طبيعية، كي لا يصبح صنمًا. إن الجمال يتطلب تضحيات بشرية. والشهرة تتطلّب تضحية النفس، التضحية بالبراءة الشخصيّة وبالصدق. إن الأصنام يتطلّبون الدماء. والمال يسرق الحياة، والمتعة تقود إلى الوحدة. الهيكليّات الاقتصاديّة تضحّي بحياة الأشخاص لمزيد من الأرباح.
لنفكر في الكثير من الأشخاص العاطلين. لماذا؟ لأنه يحدث أحيانا أن أصحاب الأعمال لهذه الشركة، أو لتلك الشركة قد قرروا طرد الناس، لكسب المزيد من المال. إنه صنم المال. نعيش في النفاق، ونصنع ونقول ما ينتظره الآخرون، لأن إله إثبات القدرات الذاتية يفرضه علينا. ومن أجل زيادة الأرباح، تُهدم حياة الأشخاص، وتُحطّم أسر، ويُترك شبّان فريسة لنماذج مدمّرة. المخدرات هي أيضًا صنم. كم من الشباب يدمرون الصحة، وحتى الحياة، من خلال عبادة هذا الصنم.
ونصل هنا إلى المرحلة الثالثة والأكثر مأساوية: "...لا تَعبُدْها" يقول الرب. الأصنام تَستَعبد. تعدُ بالسعادة ولا تهبها؛ ونجد أننا نعيش من أجل هذا الشيء أو تلك الرؤية، فتأسرنا دوامة ذاتيّة-التدمير، ونحن ننتظر نتيجة لا تصل أبدًا.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
الأصنام تعدُ بالحياة، ولكن في الواقع تنزعها. أمّا الإله الحقّ فلا يطلب الحياة إنما يهبها، ويقدمها. الإله الحقّ لا يقدّم لنا مشروعًَا نجاحًا، إنما يعلّمنا أن نحبّ. الإله الحقّ لا يطلب الأبناء، إنما يقدّم ابنه من أجلنا. الأصنام تقدّم فرضيّات مستقبليّة وتجعلنا نحتقر الحاضر؛ أما الإله الحقّ فيعلّمنا كيف نعيش في الواقع اليوميّ.
الإله الحق يعلمنا أن نعيش في واقع كل يوم، بشكل ملموس، ليس بأوهام حول المستقبل: اليوم وغدًا وبعد غد، سيرًا نحو المستقبل. إن واقعية الإله الحقيقي ضد سيولة الأصنام.
واليوم أدعوكم إلى التفكير: كم من الأصنام في حياتي أو ما هو صنمي المفضل؟ لأن الاعتراف بالأصنام الشخصيّة هو بداية النعمة، ويضعنا في طريق المحبّة. في الواقع، المحبّة لا تتوافق مع الأصنام: فإن أصبح أمرًا ما مطلقًا أو محصّنًا، أضحى بالتالي أهمّ من شريك الحياة أو الابن أو الصداقة. إن التعلّق بشيء ما أو بفكرة ما يُعمي عن المحبّة. وهكذا نذهب وراء الأصنام، خلف وثن، لدرجة الوصول حتى إلى إنكار الأب، الأم، الأطفال، الزوجة، العريس، العائلة ... وأعز الأشياء. إن التعلق بموضوع أو بفكرة يعمينا عن الحب. احتفظوا بهذا الأمر في قلبكم: الأصنام تسلبنا الحب، والأصنام تعمينا عن الحب، وإن أردنا أن نحبّ حقًّا يجب أن نكون أحرارًا من كل وثن.
ما هو صنمك؟ اخلعه وارمِه بعيدا عنك!
[1] إن العبارة פֶ֣֙סֶל֙ (فسل) تشير إلى "صورة آلهة محفورة أصلًا في الخشب أو في الحجر، أو غالبًا في المعدن" (ل. كوهلير- و. باومغارتنير، المعجم العبري والآرامي للعهد القديم، المجلد الثالث ص. 949).
[2]العبارة תְּמוּנָ֡֔ה (تمونه) لها معنى واسع جدا، ينسب إلى "شبه، شكل"؛ فالتحظير بالتالي هو واسع وهذه الصور قد تكون من أي نوع (را. ل. كوهلير- و. باومغارتنير، المعجم العبري والآرامي للعهد القديم، المجلد الأول ص. 504).
[3]إن الوصية لا تمنع الصور بحدّ ذاتها –الله نفسه سوف يطلب من موسى أن يصنع كاروبيم من ذهب فوق غطاء تابوت العهد (خر 25، 18)، وحيّة من نحاس (را. عد 21، 8)- إنما يحظر السجود لها وعبادتها، أي مسار تأليه الشيء بأكمله، وليس صنع الصورة وحسب.
[4] الكتاب المقدس باللغة العبرية يشير إلى صنمية كنعانية عبر العبارة בעל (بعل) التي تعني "سيادة، علاقة حميمة، واقع يعتمد عليه الأشخاص". الصنم يسود، يمتلك القلب ويصبح محور الحياة (را. المجم اللاهوتي للعهد القديم، المجلد الأول، 247- 251).
[5]را. التعليم الديني للكنيسة الكاثوليكية، عدد 2114: "إن الصنمية هي انحراف عن الحسّ الديني الفطريّ في الإنسان. الصنميّ هو الشخص الذي ”ينسب مفهومه الأبديّ لله إلى أيّ شخص، بدلاً من الله“" (أوريجانوس، ضدّ تشلسو، 2، 40).
[6]أصل كلمة إيدولون eidolon اليونانية، المشتقة من إيدوس eidos، يأتي من الجذر ويد weidالذي يعني "نرى" (را. المعجم الكبير للعهد القديم، بريشيا 1967، المجلد 3، ص. 127).