جميل كلام يسوع حين يقول لا تهتمّوا ما تأكلون وما تلبسون...(متى 6 /24 -34) جميل حين نكون في أمان من الهموم! جميل أن نضع الله قبل المال، حين يتوفّر المال. ولكنّه كلام غير مفهوم حين نشعر بالخطر. أريد أن أؤمن أنّ الله يعلم بمأزقي ويعدني لا بحياة أبديّة سعيدة فحسب، بل بشعور حقيقيّ بأنّي أثمن من عصافير كثيرة، وبأنّ أبي السماويّ يهتمّ لي أكثر ممّا لزنابق الحقل.
بصراحة، هذا النصّ يقلقني. ويقلقني أيضًا سؤالي الوثنيّ: أنعدل عن العمل ونحيا مثل الطيور والزهور؟ أيدعونا الإيمان إلى اتّكاليّة ملؤها الكسل؟ أليس الهمّ ما يدفعنا أن نبذل أقصى جهدنا؟ ماذا أفعل مع قلقي؟ ليس لي سوى الجلوس إلى جانب الكلمة الإلهيّة، أستفسر منها وأسألها، أحاورها... إن كان أبي السماويّ يعلم أنّي أحتاج إلى الطعام واللباس، هو يعلم أنّي بالأحرى أحتاج إلى إجابات.
أسمعه يقول لي أوّلاً: ليس الهمّ ما يدفعني إلى أقصى حدودي، بل الحبّ. أو بكلمات النصّ: «ملكوت الله وبرّه». ليس ملكوت الله «أَكْلاً وشُرْبًا، بل بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس.» (روما 14: 17). قد يدفعني الهمّ أن أبذل جهدي لأصل إلى ملء طاقتي في الإنتاج والتخطيط، قد أتوصّل إلى ضمانات تؤمّن لي الحياة السعيدة. فأشبه الرّجل الغنيّ الّذي قال له الله: يا غبيّ، اليوم تُستردّ نفسك منك. وهذا الّذي أعددته لمن يكون؟ (لوقا 12: 20). أمّا من يحبّ فيعمل ما بوسعه ويزيد من وسعه ليغمر من يحبّ. إن كانت الهموم والضمانات قاعدة التدبير الاقتصاديّ، فالحبّ هو قاعدة تدبير الفرح.
أسمعه يقول أيضًا: ليس الإيمان اتّكاليّة بل جرأة. الاتّكاليّ لا يغامر، بل ينتظر الفرج ولا يعمل له. مثله مثل الخائف، الّذي لا يغامر لأنّ ليس له ضمان. المؤمن هو مغامر: ضمانته كلمة الله وحدها، ولأنّه يتحدّى خوفه فهو يعمل ويبحث. للطيور أجنحة وعيون ثاقبة تقودها إلى طعامها، وللزنابق جذورها تمدّها بما تحتاج إليه، وللإنسان العقل والتدبير ليجد طعامه وراحته. ليست كلمات الإنجيل توصية بعدم البحث عن الطعام واللبس، وإنّما تأكيد أنّ لكلّ منّا ما يحتاج إليه ليجد سعادته. لنا أيضًا ما نحتاج إليه لنعطي بعضنا بعضًا ما تحتاج إليه حياتنا. وإن قست قلوبنا كما قايين على هابيل، لنا كلمة الله تؤنّبنا على قساوتنا وتدفعنا إلى الشركة في المحبّة.
إن أصغيتُ إلى كلمة الله تقودني إلى أبعد: «حبّ المال أصل كلّ الشرور» (1طيموتاوس 6: 10). فحبّ المال يمنع عن الشركة، وكثيرًا ما تأتي ضماناتي على حساب آخرين. أليس الهوس بالرّخاء والأمن والكماليّات والربح سببًا للصراع الّذي يحوّل عالمنا إلى شريعة الغاب، حيث يدفع الضعيف ثمن ترف القويّ؟ ربّما لا أحبّ أن أرى ذلك، لأنّي أريد أن أحفظ لنفسي صورة جميلة، ولكنّي أتجاهل يوميًّا صراخ من على بابي يطلب اهتمامًا ودواءً وطعامًا. ولكن ما أصل حبّ المال فينا؟ لمَ تتعلّق قلوبنا به؟ لمَ نحاول أن نوفّق بين ربّين: الله والمال؟
حين أبحث في قلبي، أجد أنّ ما أريده حقًّا هو الوجود، هو ألاّ أُنسى، أن أضمن أنّي محبوب ومقبول. ليس المال عملة فحسب، ولا ممتلكات مادّيّة فحسب. المال هو كلّ ما أتملّكه لأضمن أنّي موجود، وكأنّ وجودي هو على قدر ما أملك. قد يكون جمالاً أو موهبة أو ذكاءً أو علاقات، من خلالها أريد أن أشتري الحبّ. وما أشقاني إن اشتريتُ الحبّ، «ولَو بَذَلَ الإنسان كُلَّ مالِ بَيته في سَبيلِ الَحُبّ لاْحتُقِرَ اْحتِقارًا» (نشيد الأناشيد 8: 7). فالحبّ مجّانيّ ليس قانونه قانون السّوق. في النهاية، حبّ المال قلّة إيمان، لأنّ من يؤمن يعرف أنّه لا يُنسى، لا لأجل ما له، بل لأجل ذاته. هكذا يكون الحبّ أو لا يكون: «أَتَنْسى المَرأَةُ رَضيعَها فلا تَرحَمُ ابنَ بَطنِها؟ حتَّى ولَو نَسيَتِ النِّساءُ فأَنا لا أَنْساكِ.» (أشعيا 49: 14-15).
ليس المال شيئًا سيّئًا في حدّ ذاته. كما قيل: المال خادم جيّد وسيّد سيّئ. وأمّا العمل لتحصيل المال فهو للإنسان كالأجنحة للعصافير وكالجذور للزنابق. كما يرزق الله الطيور طعامها بدون أن تتخلّى عن أجنحتها، وكما يُلبس الزهور رونقها بدون أن تستغني عن جذورها، كذلك يهتمّ بالإنسان: يعطيه جرأة ليحبّ فيعطي أفضل ما عنده، وأمّا الجرأة الّتي يعطيها فهي كلمته: «لا أنساك! أنت أمامي في كلّ حين».
الأب داني يونس اليسوعي.