نصّ صموئيل (1صم 3/ 3-19) وإنجيل يوحنا (1/ 35 -42) يعرضان علينا طرق متعددة للقاء مع الله أو مع المسيح. جواب صموئيل لله المعروف « تَكلَمْ يا رب فإنَّ عَبدَكَ يَسمَع»، يُشكّل ملخّص مكثّف لمجمل العهد القديم.
منذ البداية يُطرح موضوع العلاقة الّتي توحّد الإنسان بالله، علاقة غير متماثلة حيث الإنسان مُعتبر على أنّه خادم الله، بالمعنى القويّ للكلمة؛ فالخادم هو من يخضع لإرادة الله ويعمل لخدمته حيث تعبر هذه العلاقة بوساطة الكلمة.
فنحن المسيحيّون نؤمن بالله الّذي يتكلّم، وفي العهد القديم عبارة «الله يتكلم» تتكرر آلاف المرّات؛ وليس من النادر أن يُصغي الإنسان للكلمة، ولكن في أغلب الأحيان يُقال بأنّه لا يصغي للكلمة.
فالإصغاء للكلمة يعني أن نكون مستعدين لما لا يمكننا توقّعه بخصوص إرادة الله. والمهم هو أنّ هذا الإصغاء لا يتم من خلال الأذن، بل من خلال القلب، بحسب العبارة الرائعة لسليمان الذي يطلب من الله «أعطيني يا رب قلباً يصغي» (1 مل 3، 9). وكما يقول الملك الصغير في الرواية الشهيرة: «لا نرى إلاَّ بالقلب، وما هو جوهريّ لا يُرى بالعين»، يمكننا أن نطبّق هذا الكلام على الكتاب المقدس ونقول: «لا نسمع إلاَّ من خلال القلب، مكان العقل المُطَّهر، فما هو جوهريّ لا يمكن سماعه بالأذن». هذا الأمر يتطلب القبول بأن تضعنا كلمة الله موضع تساؤل، كما يتطلّب القبول بأن تزعجنا وتدعونا للغوص في أعماقنا.
المشكلة أنّنا نملك قدرة كبيرة جداً للفلترة. دون أن نعي ذلك، وعن غير قصد، نفلتر كلام الله إن صحّ التعبير، نختار منها ما يناسبنا ونقصي من كلام المسيح ما يُزعجنا. لا نضعها موضع التساءل، ولا ننكرها، إنما نضعها جانباً، بين قوسين: مثلاً نكرر كثيراً قول المسيح «اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم»، ونضع جانباً تكملة الآية التي تقول «فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه».
هذه هي سياسة الفريسيين الذين يحاولون أن يجعلوا من كلمات المسيح غير صحيحة عندما يعترضون على كلامه بكلمة أُخرى من الكتاب المقدس. فبدلاً من أن يستقبلوا الكلمة الّتي تحكم عليهم، ينصّبون أنفسهم حكاماً على الكلمة.
فالإصغاء للكلمة يتطلّب منّا الصمت أمام الله. كمّ وكمّ من المرّات عندما نقرأ صفحة من الكتاب المقدس، أو نسمع وعظة ما، نقول في أنفسنا بأنها تتناسب تماماً مع شخص ما من محيطنا وننسى بأنّها تتوجه أولاً لنا شخصياً. فإذا أصغينا للكلمة يُصبح عملنا بالفعل فعالاًّ كما هي حال صموئيل في آخر آية « كبِرَ صَموئيل، وكانَ الرَّبُّ معَه، ولم يَدَعْ شَيئًا مِن كُلِّ كَلامِه يَسقُطُ على الأَرض». فكلّ اكتشاف للمسيح هو فردي لكنّه مأخوذ بحركة.
في إنجيل يوحنا، اكتشاف المسيح يُعبّر عن ذاته من خلال حركات جسديّة ومواقف تُبين تقدماً من الجهتين: من جهة الإنسان ومن جهة المسيح. نهاية الفصل الأوّل من إنجيل يوحنا، بعد المقدمة، يعرض علينا شخصيات مختلفة يتقدمون من المسيح مع تاريخهم الشخصيّ. في نصّ اليوم لدينا جزء بسيط من هذا الأمر، لكن الملفت للانتباه، هو أن اكتشاف المسيح يتمّ من خلال شبكة من العلاقات. الواحد يكتشف وجهة، ناحية معيّنة من شخص المسيح وينقلها للآخرين. فيوحنا المعمدان يكشف لتلميذيه بأنّ يسوع هو «حمل الله»، حمل الفصح الّذي سيُذبح، أو الحمل المنتصر بحسب سفر الرؤيا (رؤ 7، 14).
بناءً على كلمة يوحنا المعمدان، يتركه التلميذان ويتبعا يسوع. ثم فجأة يسألهم يسوع «ماذا تريدان؟» وليس «من تريدان؟». فلو قال لهم «من تريدان؟» لجعل من شخصه مباشرة المحور، متجاهلاً بذلك بحثهم الحقيقيّ. لكنّ يسوع يهتم بهم، بما يبحثون عنه: ما هي رغباتكم الحقيقيّة، عن ماذا تبحثون بالفعل في حياتكم؟ في الحقيقة عندما نبحث عن المسيح، لا نعرف بالضبط عن ماذا نبحث ويسوع يساعدنا على توضيح دوافعنا ومعنى وجودنا.
يجيب التلميذان على سؤال يسوع بسؤال: «يا معلم أين تقيم؟» وليس «نحب أن نقوم بهذا أو بذاك العمل معك». لقد فهم يسوع جيداً سؤالهم فيجيب: «تعالا وانظرا». يدعوهما يسوع إذن للإقامة معه ليتعرّفوا عليه، كما أنّه يقيم في الآب ويعرف الآب.
فلا يمكن اكتشاف ومعرفة المسيح دون علاقة حميميّة معه، دون شيء من الاستمراريّة. أصغى التلميذان لكلام يسوع وقاموا باكتشاف هائل يتجاوز بكثير ما قاله لهم المعمدان. ولكن معرفة المسيح ليست هدفاً بحدّ ذاته، إنها تدفعنا دائماً باتجاه الآخرين وباتجاه ذواتنا. يلتقي التلميذان صدفة بسمعان، أخو اندراوس ويشاركونه اكتشافهم «لقد وجدنا المسيح». يلتحق بهم سمعان ويذهبون باتّجاه المسيح. هنا لا يقول لنا النص ما الذي اكتشفه سمعان من المسيح، بل على العكس، يقول لنا كيف حوّل المسيح سمعان كليّة بإعطائه اسم جديد: «ستُدعى كيفا أي صخر». فاستقبال اسم جديد من الله يعني تغيّر الهوّية، وإذا قرأتم الكتاب المقدس تكتشفون بأن لقب الصخرة هو من ألقاب الله نفسه، والمسيح أيضاً، وأخيراً بطرس. مع هذا الاسم يعبر شيئاً من الله ومن المسيح إلى بطرس، التلميذ المدعو أيضاً ليكون أساساً لبقية التلاميذ :"وأنت ثبّت إخوانك متى رجعت".
مع صموئيل نحن مدعوون للإصغاء للكلمة لنكتشف إرادة الله لنا، مع إنجيل يوحنا، نحن مدعوون لنسير مع المسيح بناءً على من اكتشفه، ولنقيم معه لنكتشف بدورنا شيئاً من شخصه الّذي لا يمكن لأحد اكتشافه مكاننا، وللإعلان عنه للآخرين ليقوموا هم أيضاً باكتشافهم لما لم نكتشفه نحن. بدخولنا في هذه الحركة التناوبيّة، لا تكتشف عيوننا فقط من هو المسيح، بل هو نفسه يحوّل نظرنا وكياننا بمجمله.
الأب رامي الياس اليسوعي.