يعطينا الرّبّ صورة قويّة للثبات فيه، هي صورة ثبات الغصن في الشّجرة. الحياة ذاتها، الماويّة "غذاء الشجرة" كما نقول، التي في الشجرة، هي الّتي تسري في الغصن وتجعله خصبًا ونضرًا.
وهذه الحياة التي تسري في المسيح هو الرّوح القدس، الرّوح الذي ينمّي الكنيسة منذ نشأتها الجماعة الأولى تنمو بتأييد الرّوح القدس، أي بالتعزية الّتي يعطيها لمن قبلوا كلام المسيح، حتّى في وسط الإضطهادات. لهذا يقول يوحنّا أيضًا في رسالته الأولى: "نحن نعلم أنّه مُقيم فينا من الرّوح الذي وهبه لنا."
والرّبّ يعد من يقيم فيه أنّه مهما سأل من الآب يناله. لا شكّ في أنّ كثيرين يظنّون أنّ هذا الكلام صعب التصديق، وأنّه مجازيّ، والرّبّ لا يعنيه حرفيًّا. ولأنّنا نفكّر هكذا تضعف تعزية الرّوح وينالنا الحزن، وتضعف فينا الحياة المسيحيّة وبدل النموّ نتراجع.
فيكثر الكلام في بلادنا على خوفنا من تراجع الوجود المسيحيّ في الشرق، وعلى القلق والإحباط اللذين يسكنان في قلوبنا، وعلى المخاطر المحيطة بنا. ويصير فرح الفصح نفسه مجازيًّا واحتفالاتنا فولكلور نصرّ عليه إثباتًا لهويّة بشريّة أرضيّة لا تشبع جوعًا ولا تروي عطشًا. الحزن هو ما انتصر عليه الرّبّ في موته وقيامته، فلمَ ننصاع له بغباء لا مثيل له؟
مهما سأل الغصن الثابت في الشّجرة يناله، وما الّذي يطلبه الغصن؟ الغصن يشتاق إلى حمل الثمار. هذا ما يبتغيه كلّ من قبل كلام يسوع. يقول الله في سفر أشعيا: "كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يعود إليها إلاّ بعد أن أخصب الأرض لتنبت للزارع زرعًا، هكذا كلمتي الّتي تخرج من فمي، لا تعود إليّ فارغة، بل تنجح في ما أرسلتها إليه" (أشعيا 55: 10-11).
من ثبت فيه كلام الرّبّ يريد ويشتهي أن يحمل ثمارًا تشبع العالم الجائع إلى البرّ والحبّ، وهذا الطلب لا يُردّ، فالآب يُمجّد بالثمار التي نحملها. ما يمجّد الآب هو أن تكون الحياة المسيحيّة خصبة، أي أن تلاقي احتياجات الناس، بدون سؤال عن دينهم أو عن لونهم أو عن أوطانهم، وأن يعمل المسيحيّون على العدالة بين الناس، لا بالأعمال العظيمة فحسب، بل بالأعمال الصغيرة اليوميّة أيضًا.
كتب أحدهم يقول: حيث تلتقي احتياجات العالم الأكثر إلحاحًا مع رغبات قلبك الأكثر عمقـًا، هناك تكون إرادة الله أكثر قبولاً. فما يطلبه الغصن هو الخصوبة وحمل الثمار، وما يطلبه المسيحيّون هو أن تكون حياتهم حاملة الرّجاء إلى الناس، وهذا الطلب لا يردّ.
وكيف نثبت؟ يقول الربّ: في حفظ الوصيّة. وما الوصيّة؟ هي الحبّ. وأيّ حبّ؟ هو حبّ المسيح لنا. كلّما أخذنا الوقت لسماع كلمة الله ولقراءتها، كلّما نشط فينا الرّوح وعرفنا أيّ محبّة خصّنا بها الآب حتّى أنّنا دُعينا بحقّ أبناءه وبناته، وصار الحبّ الّذي ظهر لنا في المسيح مثالاً نقتدي به، حبًّا لا بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحقّ.
ولكنّنا نختبر يوميًّا أنّ حبّنا ناقص، والأنانيّة تحيط بنا، لأنّ الحزن يلفّ قلوبنا. ألا ترى يا ربّ أيّة حالة صرنا إليها؟ ألا ترى العنف المتفجّر حولنا وفينا؟ كلماتك ووعودك تبدو بعيدة، كحلم جميل لكنّه للأسف غير واقعيّ.
وقلوبنا توبّخنا كلّ يوم لنقص رجائنا وضعف إيماننا وفتور محبّتنا. نعم في قلوبنا صوت يدعو إلى الإستسلام واليأس. في قلوبنا صوت حزين يشهد علينا أنّنا غير ثابتين. ولكن في هذا الواقع يصرخ فينا الرّوح: الله أكبر من قلوبنا.
حبسنا كلمة الله في قدّاس الأحد ونسينا أنّها الكلمة الّتي خلقت السّماء والأرض، لا يقيّدها أحد ولا تغلبها قوى عظمى ولا خطيئة البشر. نحن نُصارع نعم! نصارع منطق اليأس، ولكنّنا نصارع في معركة محسومة، ربحها لنا الرّبّ في قيامته، ويدعو كلًّا منّا أن نربح اليوم صراعنا، بأن نحمل ثمارًا تشبع العالم. ومن يطلب هذه الخصوبة، طلبه لا يُردّ. هذا وعد الربّ وهذا ما نؤمن به ثابتين.
الأب داني يونس اليسوعيّ