ترأّس قداسة البابا فرنسيس عصر اليوم الثلاثاء القدّاس الإلهيّ في بازيليك القدّيس بطرس بالفاتيكان بمناسبة الإحتفال بعيد تقدمة يسوع إلى الهيكل واليوم العالميّ العشرين للحياة المكرَّسة واختتام سنة الحياة المكرّسة، وألقى الأب الأقدس عظة استهلّها بالقول:
نجد أمام نظرنا واقع كبير وفي الوقت عينه بسيط ومتواضع: مريم ويوسف يحملان الطفل يسوع إلى هيكل أورشليم. إنّه طفل كالعديد من الأطفال ولكنّه مميّز: إنّه ابن الله الوحيد الذي أتى من أجل الجميع. لقد حمل لنا هذا الطفل رحمة الله وحنانه: يسوع هو وجه رحمة الآب. هذه هي الأيقونة التي يقدّمها لنا الإنجيل في ختام سنة الحياة المكرّسة، سنة تصب الآن كنهر في بحر الرَّحمة، سرّ المحبَّة الكبير هذا الذي نختبره خلال اليوبيل الاستثنائيّ.
إنَّ العيد الذي نحتفل به اليوم، يُدعى لاسيَّما في الشّرق عيد اللّقاء. في الواقع، وفي الإنجيل الذي أعلنّاه نرى لقاءات عديدة. في الهيكل يأتي يسوع إلى لقائنا ونحن نذهب إلى لقائه. نتأمّل اللّقاء مع سمعان الشيخ الذي يمثّل انتظار شعب إسرائيل الأمين وابتهاج القلب من أجل تمام المواعيد القديمة.
نتأمّل أيضًا اللّقاء مع النبيّة حنّة المُسنّة التي ولدى رؤيتها للطفل تهلّلت فرحًا ومجّدت الله. سمعان وحنّة هما الانتظار والنبوءة، ويسوع هو الحداثة والكمال. هو يُظهر نفسه لنا كمفاجأة الله الدّائمة؛ ففي هذا الطفل الذي وُلِد من أجل الجميع يلتقي الماضي المكوّن من الذاكرة والوعد بالمستقبل المليء بالرَّجاء.
يمكننا أن نرى في هذا الأمر بداية الحياة المكرّسة. المكرَّسون والمكرَّسات مدعوُّون أوَّلاً ليكونوا رجال ونساء لقاء. إنَّ الدَّعوة في الواقع لا تنطلق من مشروع تمَّ التفكير به وإنّما من نعمة الرَّبِّ التي تطالنا من خلال لقاء يبدّل الحياة. إنّ الذي يلتقي بيسوع حقًـًّا لا يُمكنه أن يبقى كما كان، لأنّه التجدّد الذي يجعل كلّ الأشياء جديدة وبالتالي فالذي يعيش هذا اللّقاء يصبح شاهدًا ويجعل هذا اللّقاء مُمكنًا أيضًا للآخرين، ويصبح أيضًا مُعزِّزًا لثقافة اللّقاء ويتجنّب المرجعيّة الذاتيّة التي تجعلنا ننغلق على ذواتنا.
إنَّ نصَّ الرِّسالة إلى العبرانيِّين (عب 2/ 14 -18) يذكّرنا بأنَّ يسوع نفسه ولكي يأتي للقائنا لم يتردّد بأن يُشاركنا طبيعتنا البشريّة: "لَمّا كانَ ٱلأَبناءُ شُرَكاءَ في الدَّمِ وَاللَّحم، شارَكَهُم يَسوعُ أَيضًا فيهِما مُشارَكَةً تامَّةً".
فيسوع لم يخلّصنا من الخارج، لم يبقَ بعيدًا عن مأساتنا بل أراد أن يقاسمنا حياتنا. وبالتالي فالمكرَّسون والمكرَّسات مدعوُّون بدورهم ليكونوا علامة ملموسة ونبويّة لقرب الله هذا ولمشاركته هذه بحالة الضعف والخطيئة والجراح التي يعيشها إنسان زمننا.
إنَّ جميع أشكال الحياة المكرَّسة، كلٌّ بحسب ميزاتها، مدعوّة لتكون في حالة رسالة دائمة وتشارك "في زمننا هذا، في آمالَ البشرِ وأفراحِهم، أحزانِهم وضيقاتِهم، لاسيّما الفقراء منهم والمعذَّبين جميعاً" (الدستور العقائديّ "فرح ورجاء"، عدد 1).
يقول لنا الإنجيل (لو 2/ 22 - 40) أيضًا إنّ "أَباه وأُمَّهُ كانا يَعجَبانِ مِمَّا يُقالُ فيه". لقد حافظ يوسف ومريم على دهشة هذا اللقاء المليء بالنّور والرَّجاء من أجل جميع الشُّعوب. ونحن أيضًا، كمسيحيِّين وأشخاصًا مكرَّسين، نحن حرَّاس الدّهشة.
دهشة تتطلّب تجدّدًا دائمًا؛ الويل للروتين في الحياة الرُّوحيّة؛ الويل لحبس مواهبنا في عقيدة مُجرّدة: إنّ مواهب المؤسِّسين ليست قطع متحف. إنَّ الرُّوح القدس قد حرّك مؤسِّسينا الذين لم يخافوا من الدّخول في الحياة اليوميّة ومشاكل الناس فساروا بشجاعة نحو الضواحي الجغرافيّة والوجوديّة. لم يتوقّفوا أمام الحواجز وعدم تفهُّم الآخرين لأنّهم حافظوا في قلوبهم على دهشة اللقاء بالمسيح.
لم يروِّضوا نعمة الإنجيل وحملوا في قلوبهم على الدّوام همَّ الرَّبِّ والرَّغبة الجامحة بحمله للآخرين كما فعل يوسف ومريم في الهيكل. نحن مدعوُّون اليوم أيضًا لنقوم بخيارات نبويّة وشُجاعة.
لنتعلّم من عيد اليوم عيش الامتنان على اللّقاء بيسوع وعلى عطيّة الدَّعوة للحياة المكرَّسة. كم هو جميل أن نلتقي بوجوه أشخاص مكرّسين سعداء، ولربما أيضًا متقدّمين في السِّن على مثال سمعان وحنّة، فرحين ومُمتلئين بالامتنان على دعوتهم.
هذه هي كلمة بإمكانها أن تلخّص كلّ ما عشناه خلال سنة الحياة المكرّسة هذه: امتنان على عطيّة الرّوح القدس الذي يحرّك الكنيسة على الدّوام من خلال المواهب المختلفة.
ينتهي نصّ الإنجيل بهذه العبارة: "وكانَ الطِّفْلُ يَتَرَعَرعُ ويَشتَدُّ مُمْتَلِئًا حِكمَة، وكانت نِعمةُ اللهِ علَيه".
ليتمكّن الرّبّ يسوع، بشفاعة مريم الوالديّة، من أن ينمو فينا وينمّي في كلِّ فردٍ منّا الرَّغبة باللّقاء والحفاظ على الدّهشة وفرح الامتنان؛ فيجذب هكذا نوره آخرين ويتمكّنون من اللّقاء برحمة الآب.
إذاعة الفاتيكان.