كونوا ثابتين وأحرارًا في المسيح

متفرقات

كونوا ثابتين وأحرارًا في المسيح

 

كونوا ثابتين وأحرارًا في المسيح

 

 

بمناسبة عيد القدّيس بيدرو كلافير الكاهن اليسوعيّ والرَّسول بين العبيد السُّود المرحّلين، ترأّس قداسة البابا فرنسيس القدّاس الإلهيّ عند السَّاعة العاشرة والرُّبع من صباح السبت بالتوقيت المحلّي في مطار إينريكيه أولايا هيريرا في ميديلين وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها:

 

في القدّاس الإلهيّ الذي احتفلنا به الخميس في بوغوتا سمعنا دعوة يسوع لتلاميذه الأوائل؛ إنّ هذا الجزء من إنجيل لوقا (5/ 1-11) والذي يبدأ بهذه الرِّواية يبلغ ذروته في دعوة الإثنيّ عشر. بماذا يذكِّر الإنجيليّون بين هذين الحدثين؟ إنّ مسيرة الإتباع هذه قد طلبت من أتباع يسوع الأوائل جهد تطهّر كبيرًا. كانت بعض الوصايا والموانع والأوامر تجعلهم يشعرون بالأمان؛ وكان القيام ببعض الطقوس والممارسات يعفيهم من قلق السّؤال: ماذا يعجب إلهنا؟

 

لقد أشار إليهم يسوع، الرَّبّ، أنّ الطاعة هي السَّير وراءه، وأنَّ هذه المسيرة ستضعهم أمام البرص والمخلّعين والخطأة. لقد كانت هذه الحالات تطلب أكثر من مجرّد وصفة أو قاعدة متّفق عليها؛ فتعلّموا أن إتباع يسوع يتطلّب أولويّات أخرى واعتبارات أخرى من أجل خدمة الله. فبالنسبة للرّبّ كما للجماعة الأولى أيضًا من الأهميّة بمكان ألّا يتعلّق الذين يعتبرون أنفسهم تلاميذًا بأسلوب معيّن أو ممارسات معيّنة تشبه أسلوب بعض فريسيي ذلك الزمن أكثر من أسلوب يسوع.

 

إنّ حريّة يسوع تتعارض مع نقص حريّة معلميّ الشّريعة في تلك المرحلة إذ كان يشلُّهم شرح وممارسة متشدِّدان للشّريعة. وبالتالي لم يتوقّف يسوع عند ممارسة "صحيحة" ظاهريًا للشّريعة، بل حملها إلى تمامها ولذلك يريد أن يضعنا في هذا الإتّجاه وفي أسلوب الإتباع هذا والذي يتطلّب ذهابًا إلى الجوهريّ وتجدُّدًا والتزامًا. إنّها مواقف ثلاثة ينبغي علينا أن نطبعها في حياتنا كتلاميذ.

 

الأوّل الذهاب إلى الجوهريّ. لا يعني "ترك" كلّ ما لا يتلاءم معنا لأنّ يسوع أيضًا لم يأتِ "ليُبطل الشّريعة، بل ليكمّلها" (متى ٥، ۱۷)؛ بل يعني الذهاب إلى العمق إلى المهمّ والقيّم في الحياة. يعلّم يسوع أنَّه لا يمكن للعلاقة مع الله أن تكون مجرّد تعلُّق بارد بالأحكام والشّرائع، ولا حتى القيام بأعمال خارجيّة لا تقود إلى تغيير حياة حقيقيّ؛ وبالتالي لا يُمكن أيضًا لتتلمذنا أن تحرّكه العادة فقط لأنّنا نملك شهادة عماد وإنّما ينبغي أن ينطلق من خبرة حيّة لله ومحبّته. فالتتلمذ ليس شيئًا جامدًا بل حركة مستمرّة باتّجاه المسيح؛ ليس مجرّد تعلُّق بشرح عقيدة ما بل خبرة لحضور الرَّب الودّي والحيّ والعامل، وتدرُّب مستمرّ من خلال الإصغاء لكلمته. وهذه الكلمة، تفرض نفسها في احتياجات إخوتنا الملموسة: هي جوع أقرب الأشخاص إلينا في النصّ الذي أعلناه اليوم (لوقا ٦، ۱- ٥)، أو المرض في ما يتحدّث عنه لوقا فيما بعد.

 

أمّا الكلمة الثانية، فهي التجدُّد. فكما كان يسوع "يهُزُّ" علماء الشّريعة كي يخرجوا من قساوتهم، "يهزُّ" الرّوح القدس الكنيسة الآن أيضًا لكي تترك رفاهيتها وتعلقاتها. لا ينبغي على التجدُّد أن يخيفنا. إن الكنيسة هي في تجدّد دائم. وهي لا تتجدّد كما يحلو لها وإنّما "راسِخةً غَيرَ مُتَزَعزِعة ولا مُتَحوِّلة عن رَجاءِ البِشارةِ الَّتي سَمِعتها" (كولوسي ۱، ۲۳).

 

إن التجدّد يتطلّب تضحية وشجاعة، لا كي نشعر بأنّنا أفضل ومعصومون عن الخطأ، وإنّما لنجيب على دعوة الرَّبّ بشكل أفضل. إنّ ربَّ السبت، وسبب وجود جميع وصايانا وأحكامنا، يدعونا كي نعيد التفكير في القوانين عندما يتعلّق الأمر بإتّباعه وعندما تسائلنا جراحه المفتوحة وصرخته، صرخة الجوع والعطش إلى البرّ وتفرض علينا أجوبة جديدة. هناك في كولومبيا العديد من الأوضاع التي تطلب من التلاميذ أسلوب حياة يسوع ولاسيّما المحبّة المترجمة إلى أعمال لا عنف ومصالحة وسلام.

 

 الكلمة الثالثة هي التزام. علينا أن نلتزم حتى وإن كان هذا الأمر يبدو للبعض أنّه يتطلَّب "توسيخ الأيدي". فكما دخل داود والذين معه إلى الهيكل لأنّهم جاعوا ودخل تلاميذ يسوع إلى حقل القمح وأكلوا السنبل، هكذا يُطلَب اليوم منّا أن ننمو في الشّجاعة الإنجيليّة التي تنبع من معرفة أنَّ كثيرين هم الذين يجوعون، يجوعون إلى الله والكرامة لأنّهم قد جُرِّدوا من كلِّ شيء.

 

وأتساءل ما إذا كان هذا الجوع إلى الله لدى الكثير من النّاس ناتجًا عن كوننا جرّدناهم من كلّ شيء. وبالتالي علينا كمسيحيِّين أن نساعدهم ليشبعوا من الله؛ لا أن نعرقل ـ كما يحصل الآن ـ أو نمنع هذا اللقاء.

 

أيّها الإخوة، الكنيسة ليست قسم جمارك. تريد أن تبقى الأبواب مفتوحة لأنّ قلب إلهها ليس مفتوحًا وحسب إنّما هو مطعون بالمحبّة التي صارت ألمًا. لا يمكننا أن نكون مسيحيِّين يرفعون على الدّوام رايات "ممنوع المرور" ولا أن نعتبر هذه الفسحة ملكنا ونمتلك شيئًا ليس لنا إطلاقـًا.

 

الكنيسة ليست ملكنا بل هي لله؛ هو ربُّ الهيكل والحصاد؛ هناك مكان للجميع والجميع مدعوُّون ليجدوا غذاءهم هنا وبيننا. وهو من أعدّ العرس لابنه يدعو الجميع: الأصحّاء والمرضى، الخيّرين والأشرار. نحن مجرّد "خدّام" (كولوسي ۱، ۲۳) ولا يمكننا أن نكون أولئك الذين يمنعون هذا اللقاء. بل على العكس، لأنّ يسوع يطلب منّا ما طلبه من تلاميذه: "أَعطوهم أَنتُم ما يأكُلون" (متى ۱٤، ۱٦)؛ هذه هي خدمتنا. أكل خبز الله، أكل محبّة الله. أكل الخبز الذي يساعدنا على البقاء على قيد الحياة. لقد فهم هذا الأمر جيّدًا، بيترو كلافير الذي نحتفل اليوم بتذكاره في الليتورجيّا وسأكرّمه غدًا في قرطاجنة. "عبد للسّود إلى الأبد" كان هذا شعار حياته لأنّه فهم، كتلميذ ليسوع، أنّه لا يمكنه أن يقف غير مبال أمام ألم المتروكين والمعذّبين في زمنه وأنّه كان ينبغي عليه أن يقوم بشيء ما لتخفيفه.

 

 

 أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء، إنّ الكنيسة في كولومبيا مدعوّة لتلتزم بشجاعة أكبر في تنشئة تلاميذ مرسلين، كما أشرنا نحن الأساقفة المجتمعين في آباريسيدا. تلاميذ يرون ويحكمون ويتصرّفون؛ كما تقترح أوّل وثيقة أمريكيّة لاتينيّة ولدت في هذه الأراضي. تلاميذ مرسلون يعرفون كيف ينظرون بدون قصر نظر وراثيّ، يفحصون الواقع بعينيّ يسوع وقلبه وبهذا يحكمون عليه. ويخاطرون ويتصرّفون ويلتزمون. لقد جئت إلى هنا لأثبّتكم في الإيمان ورجاء الإنجيل: كونوا ثابتين وأحرارًا في المسيح لأنّ الرّسوخ في المسيح يمنح الحريّة؛ هكذا تعكسونه في كلِّ ما تقومون به؛ عانقوا بكلّ ما أوتيتم من قوى إتباع يسوع تعرّفوا عليه واسمحوا له بأن يدعوكم ويعلّمكم ابحثوا عنه في الصّلاة واتركوه يبحث عنكم في الصّلاة؛ بشّروا به بفرح كبير. لنطلب شفاعة أمّنا "سيّدة الكانديلاريا" كي ترافقنا في مسيرتنا كتلاميذ، لكي وإذ نضع حياتنا في المسيح، نكون ببساطة مرسلين يحملون لجميع النّاس نور الإنجيل وفرحه.   

 

إذاعة الفاتيكان.