كنيسة تخرج وتنطلق

متفرقات

كنيسة تخرج وتنطلق




كنيسة تخرج وتنطلق


ترأس قداسة البابا فرنسيس عند السّاعة الرّابعة والربع من عصر الأربعاء بالتّوقيت المحليّ القدّاس الإلهيّ في المزار الوطني لسيّدة الحبل بلا دنس في واشنطن أعلن خلاله قداسة الأب جونيبيرو سيرّا وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة استهلّها بالقول: إفرحوا بالربّ دائمًا!    (فيليبي 4/4) أُكرِّرُ القول: إفرحوا! إنّها كلمات مُدهشة، ودعوة  تؤثّر على حياتنا. يطلب منّا القدّيس بولس أن نفرح؛ لا بل هو يأمرنا بأن نفرح.


إنّ صدى هذه الدّعوة يتردّد مع الرّغبة التي نملكها جميعًا بعيش حياة كاملة ذات معنى وفرِحَة. ويبدو لنا الأمر كما ولو أنّه بإمكان القدّيس بولس أن يسمع ما يفكّر به كلّ فردٍ منّا في قلبه ويعبّر عمّا نشعر به وما نختبره. هناك شيء في داخلنا يدعونا للفرح ويحثّنا على عدم قبول الأوهام التي تبقينا في راحتنا. لكنّنا في الوقت عينه، نعيش كفاح الحياة اليوميّة، ويبدو أنّ هناك أمورًا كثيرة تقف عائقـًا في مسيرة هذه الدّعوة إلى الفرح، إذ يُمكن لروتين حياتنا اليوميّة غالبًا أن يقودنا إلى نوع من اللامبالاة الكئيبة التي تتحوّل تدريجيًّا إلى عادة ذات تبعات قاتلة: فتخدّر قلوبنا.


نحن لا نريد للامبالاة أن تقود حياتنا... أم أنّ هذا ما نريده؟ نحن لا نريد للعادة أن تُسيطرَ على يوميّاتنا... أم أنّ هذا ما نريده؟ لذلك يجب علينا أن نسأل أنفسنا: ماذا علينا أن نفعل لنمنع قلوبنا من أن تتخدّر، وتُصبح بلا مشاعر؟ كيف يُمكننا أن نجعل فرح الإنجيل ينمو ويتجذّر في جميع ظروف حياتنا؟ يسوع يُعطي الجواب. لقد قاله لتلاميذه حينها والآن يقوله لنا: انطلقوا! بشّروا! إنّ فرح الإنجيل يُختبر، ويُكتشف ويُعاش فقط من خلال منحه ومن خلال بذل ذواتنا.


يدعونا روح العالم لنكون كالآخرين ونقبل ما نحصل عليه بدون تعب. إزاء هذا الرّوح البشريّ، "ينبغي أن نشعر مُجدّدًا بأنّنا بحاجة بعضنا إلى بعض، وأنّه تقع علينا مسؤوليّة تُجاه الآخرين وتُجاه العالم" (كُن مُسبَّحًا، 229). إنّها مسؤوليّة إعلان رسالة يسوع. لأنّ مصدر فرحنا هو في "رغبة لا تنضب لإظهار الرّحمة، ثمرة خبرتنا لقوّة رحمة الآب اللّامتناهيّة" (فرح الإنجيل، 24). انطلقوا نحو الجميع، وبشِّروا بالمسحة وامسحوا بالبشارة. هذا ما يدعونا إليه الربّ اليوم ويقول لنا:


المسيحيّ يختبر فرحه في الرّسالة: انطلقوا إلى شعوب كلِّ الأمم!


المسيحيّ يجد الفرح في دعوة: انطلقوا وأعلنوا البُشرى السَّارة!


المسيحيّ يجدّد الفرح ويأوّنه في الإجابة على الدّعوة: انطلقوا وامسحوا!


 يسوع يُرسلكم إلى جميع الأمم. إلى كلِّ الشعوب. ونحن أيضًا جزء من هذه الشّعوب منذ ألفيّ سنة خلت. فيسوع لم يعطِ لائحة اختياريّة بمن هو أهل أو غير أهل لنوال رسالته وحضوره. وإنّما على العكس، فقد عانق الحياة كما هي. في وجه الألم والجوع والمرض والخطيئة، في وجه الجراح والعطش والتّعب في وجه الشكّ والشّفقة. لم يبحث عن حياة جميلة ومزيّنة، بل عانقها كما هي. بالرّغم من أنّها غالبًا ما كانت مُدمّرة ووسخة.


فيسوع يقول للجميع: إذهبوا واحملوا البُشرى السَّارة للجميع. انطلقوا باسمي وعانقوا الحياة كما هي، ولا كما تعتقدون أنّه ينبغي عليها أن تكون. أخرجوا إلى الطرقات الرئيسيّة والفرعيّة، إذهبوا وأعلنوا البُشرى السّارة بدون خوف وأحكام مسبّقة، وبدون تعالي لجميع الذين فقدوا فرح العيش. إنطلقوا لإعلان غمرة الله الرّحيمة. إنطلقوا نحو الذين يثقلهم الألم والفشل والذين يشعرون أنّ حياتهم فارغة وأعلنوا لهم شغف أبٍ محبّ ٍ يريد أن يمسحهم بزيت الرّجاء وزيت الخلاص. إنطلقوا وأعلنوا أنّ الكلمة الأخيرة في حياة الأشخاص ليست للأخطاء والأوهام المخادعة وسوء التفاهم. إنطلقوا حاملين المسحة التي تخفّف الجراح وتشفي القلوب.


 إنّ الرّسالة لا تولد من برنامج خُطِّط له بشكل كامل أو من دليل إرشادات منظّم. الرّسالة تولد على الدّوام من حياةٍ شعرت بأنَّ هناك من بحث عنها وشفاها، وجدها وسامحها. فالرّسالة تولد من الخبرة الدّائمة لمسحة الله الرّحيمة. والكنيسة، شعب الله المُقدّس، تعرف كيف تسير في دروب التاريخ التي يعلوها الغبار وغالبًا ما تعترضها الصّراعات والظلم والعنف، لتلتقي بأبنائها، إخوتنا وأخواتنا.


إنّ شعب الله المقدّس والأمين لا يخاف من أن يضلّ طريقه، ولكنّه يخاف من أن يُصبح منغلقـًا على نفسه، ويتحوّل إلى نخبة مُتمسّكة بضماناتها. فهو يعرف أنّ الإنغلاق على الذات، بجميع أشكاله، هو سبب هذه اللامبالاة الكبيرة. لنخرج إذًا ولننطلق لنقدّم للجميع حياة يسوع المسيح (فرح الإنجيل، 49). فشعب الله يعرف كيف يشمل الجميع لأنّه تلميذ ذاك الذي انحنى أمام تلاميذه ليغسل أرجلهم (فرح الإنجيل، 24).


واليوم، نحن هنا لأنّ هناك العديد من الأشخاص الذين أجابوا بشجاعة على هذه الدّعوة. لقد آمنوا أنّ "الحياة تنمو في بذل ذاتها وتضعف في العزلة والرفاهيّة" (وثيقة آباريسيدا، 360). نحن ورثة روح رسوليّ شُجاع للعديد من الرّجال والنساء الذين فضّلوا "عدم الإنغلاق على ذواتهم في هيكليّات حماية وهميّة خاطئة... في عوائد نشعر من خلالها بالطمأنينة، بينما يعُجُّ الخارج بجموع جائعة" (فرح الإنجيل، 49).


نحن مدينون لتقليد ولسلسلة شهود ساهموا في إمكانيّة جعل بُشرى الإنجيل السّارة، على الدّوام وفي كلّ جيل، جديدة وسارّة. واليوم نتذكّر أحد هؤلاء الشّهود الذي شهد لفرح الإنجيل في هذه البلاد، الأب جونيبيرو سيرّا. لقد جسّد "كنيسة تخرج وتنطلق"، كنيسة تعرف كيف تخرج وتنطلق لتحمل إلى كل مكان حنان الله الذي يصالح.


لقد ترك جونيبيرو سيرّا موطنه وتقاليده وتحلّى بشجاعة فتح دروب جديدة. وقد عرف كيف ينطلق للقاء العديد من الأشخاص ويتعلّم عاداتهم وميزاتهم ويحترمها. لقد تعلّم كيف يولّد ويرافق حياة الله في وجوه جميع الذين التقاهم، وجعلهم إخوةً وأخوات له. لقد سعى جونيبيرو أيضًا للدّفاع عن كرامة جماعات الشّعوب الأصليّة وحماهم من الذين أساؤوا معاملتهم واستغلّوهم.


 لقد كان الأب سيرّا يملك شعارًا ألهم حياته وعمله، قولاً شكّل له أسلوب حياة: Siempre adelante! دائمًا إلى الأمام! لقد كان هذا الأسلوب الذي وجده جونيبيرو ليعيش فرح الإنجيل ولكي لا يتخدّر قلبه. لقد استمرّ في مسيرته إلى الأمام لأنّ الرّبّ كان ينتظره، لقد استمرّ في مسيرته لأنّ إخوته وأخواته كانوا ينتظرونه. وقد تابع مسيرته حتّى نهاية حياته. فلنتمكن اليوم نحن أيضًا من أن نقول على مثاله: إلى الأمام! لنتابع السّير إلى الأمام!      


إذاعة الفاتيكان.