السَّلامُ عليكم!
أشكر من كلِّ قلبي صاحب السموّ الشيخ محمّد بن زايد آل نهيان، وفضيلة الدكتور أحمد الطيّب، الإمام الأكبر للأزهر الشريف، على كلماتهما. أنا ممتنٌّ لمجلس حكماء المسلمين على اللقاء الذي تمَّ منذ قليل، في مسجد سموّ الشيخ زايد.
أحيّي أيضًا السيِّد عبد الفتاح السيسي، رئيس جمهوريَّة مصر العربيَّة أرض الأزهر.
أحيّي السلطات المدنيّة والدينيّة والسلك الدبلوماسي. إسمحوا لي أيضًا أن أشكركم جميعًا شكرًا جزيلًا على الاستقبال الحارّ الذي قدّمتموه لي ولوفدنا.
أشكر كذلك جميع الأشخاص الذين ساهموا في جعل هذه الزيارة ممكنة والذين عملوا بتفانٍ وحماس ومهنيّة من أجل هذا الحدث: المنظِّمون، وموظّفو البروتوكول، ورجال الأمن، وجميع الذين وبأشكال مختلفة قدّموا مساهمتهم "خلف الكواليس". وأتوجَّه بشكرٍ خاصّ للسيِّد محمد عبد السَّلام، المستشار السابق للإمام الأكبر.
كما أتوجّه من وطنكم إلى جميع بلدان شبه الجزيرة هذه، والذين أرغب في أن أوجّه إليهم أخلص تحيّاتي الودّية، والمقرونة بالصداقة والتقدير.
بروح ممتنٍّ للربّ، في المئويّة الثامنة للقاء بين القدّيس فرنسيس الأسيزي والسلطان الملك الكامل، قبلتُ فرصة المجيء إلى هنا كمؤمن متعطِّشٍ للسَّلام وكأخٍ يبحث عن السَّلام مع الإخوة. الرغبة في السَّلام، وبتعزيز السَّلام، وبأن نكون أدوات للسَّلام: هذا هو ما جئنا من أجله.
إنَّ شعار هذه الزيارة يتألف من حمامة تحمل غصن زيتون. وتذكّر هذه الصورة بقصّة الطوفان الأوّل، الموجود في مختلف التقاليد الدينيّة. بحسب الرواية الكتابيِّة، فإن الله، كيما تُحفَظ البشريّة من الدمار، قد طلب من نوح أن يدخل في الفُلك مع عائلته. واليوم أيضًا، لكي نحافظ على السَّلام باسم الله، نحن بحاجة للدُّخول معًا كعائلة واحدة في فُلكٍ يستطيع أن يعبر بحار العالم العاصفة: إنَّه فُلك الأخوّة.
نقطة الانطلاق هي الاعتراف بأنَّ الله هو أصل العائلة البشريّة الواحدة. فهو، ولكونه خالق كلِّ شيء وخالق الجميع، يريد أن نعيش كإخوة وأخوات، وأن نقيم في البيت المشترك الذي منحنا هو إيَّاه. هنا تتأسّس الأخوّة، عند جذور بشريّتنا المشتركة، مثل "دعوة ماثلة في مخطّط الله للخلق"[1]. إنَّها الدعوة التي تخبرنا بأنَّنا جميعًا نملك الكرامة عينها وبأنّه لا يمكن لأحدٍ أن يكون سيّدًا للآخرين أو عبدًا لهم.
لا يمكننا أن نكرِّم الخالقَ دون أن نحافظَ على قدسيّة كلِّ شخصٍ وكلِّ حياةٍ بشريَّة: فكلُّ فردٍ هو ثمينٌ على حدّ السواء في عينيّ الله. لأنّ الله لا ينظر إلى العائلة البشريّة بنظرة تمييز تستثني، وإنّما بنظرة محبّة تدمج. لذلك، فالاعتراف بالحقوق عينها لكلّ كائن بشريٍّ، إنّما هو تمجيد لاسم الله على الأرض. وباسم الله الخالق، بالتالي، يجب أن تُدان، وبدون تردّد، جميع أشكالِ العنف، لأنّ استعمال اسم الله لتبرير الكراهية والبطش ضدّ الأخ، إنّما هو تدنيسٌ خطيرٌ لاسمه. فلا وجود لعنفٍ يمكن تبريره دينيًّا؛ ولا يجب على أحد "استخدام الأديان في تأجيجِ الكراهيةِ والعُنْفِ والتطرُّفِ والتعصُّبِ الأعمى ... [أو] استخدام اسم الله لتبريرِ أعمالِ القتلِ والتشريدِ والإرهابِ والبَطْشِ" (وثيقة الأخوّة البشريَّة).
إنَّ عدوّة الأخوّة هي النزعة الفردانيّة، التي تُترجم في عزيمة تأكيد الذات والمجموعة الخاصَّة على حساب الآخرين. وهو فخّ يهدِّد جميع جوانب الحياة، حتى الصفات الأسمى والفطريّة لدى الإنسان، أي الانفتاح على المتسامي والتديُّن. إنَّ التديُّن الحقيقيّ يقوم على محبّة الله من كلّ القلب، ومحبّة القريب كمحبّتنا لأنفسنا. وبالتالي يحتاج التصرّف الديني لأن يُنقّى على الدوام من التجربة المتكرّرة لاعتبار الآخرين أعداء وخصوم. كلُّ ديانة هي مدعوّة لتخطّي فجوة التمييز بين أصدقاء وأعداء، كي تتبنّى وجهة نظر السماء، التي تعانق جميع البشر بدون محاباة وتمييز.
لذلك أرغب في التعبير عن تقديري لالتزام هذا البلد في الموافقة على حريّة العبادة وضمانها، مواجهًا التطرّف والكراهية. بهذه الطريقة، فيما تُعزَّز الحريّة الأساسيّة للمرء بإعلان إيمانه الشخصيّ، والتي هي ضرورة جوهريّة كي يحقّق الإنسان ذاته، يتمُّ السَّهر أيضًا حتى لا يتمَّ استغلال الديانة، وتتعرّض لخطر نكران ذاتها بقبولها للعنف والإرهاب.
لكن الأخوّة بالتأكيد "تعبّر أيضًا عن التنوّع والاختلاف الموجود بين الإخوة، بالرغم من رابط الولادة بينهم وامتلاكهم للطبيعة عينها ولذات الكرامة"[2]. والتعدّد الدينيّ هو تعبير عن ذلك. وبالتالي فالموقف الصحيح في هذا الإطار ليس التجانس القسريّ، ولا التوفيق الخانع: ما دعينا للقيام به، كمؤمنين، هو أن نلتزم من أجل أن يحصل الجميع على المساواة في الكرامة، وذلك باسم الرَّحيم الذي خلقنا والذي باسمه علينا أن نبحث عن التآلف في التناقضات والأخوّة في الاختلاف. أريد هنا أن أكرِّر التأكيد على قناعة الكنيسة الكاثوليكيَّة: "لا يمكننا أن ندعو الله أبًا للجميع اذا رفضنا أن نتصرّف كإخوة مع الناس المخلوقين على صورة الله"[3].
مع ذلك توجد أسئلة عديدة تفرض ذاتها: كيف نحافظ على بعضنا البعض في العائلة البشريّة الواحدة؟ وكيف نغذّي أخوّة غير نظريّة، تُترجَم في أخوّة حقيقيّة؟ كيف نجعل إدماج الآخر يسود على التهميش باسم انتمائنا الشخصيّ؟ كيف يمكن للديانات، باختصار، أن تكون قنوات أخوّة بدلاً من أن تكون حواجز إقصاء؟
العائلة البشريّة وشجاعة الاختلاف
إن كنّا نؤمن بوجود العائلة البشريّة، فيجب بالتالي المحافظة عليها، كعائلة. وكما في كلّ عائلة، ذلك يكون أوّلًا من خلال حوارٍ يوميٍّ وحقيقيّ. هذا الأمر يستلزم هويّة شخصيّة لا يجب التخلّي عنها لإرضاء الآخر. ولكنّه يتطلّب في الوقت عينه شجاعة الاختلاف[4]، التي تتضمّن الاعتراف الكامل بالآخر وبحريّته، وما ينتج عنه من التزام ببذل الذات كي يتمّ التأكيد على حقوقه الأساسيّة، في كلِّ مكان، ومن قِبَلِ الجميع. لأنّنا بدون حريّة لا نكون بعد أبناء العائلة البشريّة وإنَّما عبيد. من بين الحرّيات، أرغب في تسليط الضوء على الحريّة الدينيّة. فهي لا تختصر على حريّة العبادة، بل ترى في الآخر أخًا بالفعل، وابنًا لبشريّتي نفسها، إبنًا يتركه الله حرًّا، ولا يمكن بالتالي لأيّة مؤسّسة بشريّة أن تجبره حتى باسم الله. "انَّ الحريَّةَ حَقٌّ لكُلِّ إنسانٍ: اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا ومُمارَسةً، وأنَّ التَّعدُّدِيَّةَ والاختلافَ في الدِّينِ واللَّوْنِ والجِنسِ والعِرْقِ واللُّغةِ حِكمةٌ لمَشِيئةٍ إلهيَّةٍ، قد خَلَقَ اللهُ البشَرَ عليها، وجعَلَها أصلًا ثابتًا تَتَفرَّعُ عنه حُقُوقُ حُريَّةِ الاعتقادِ، وحريَّةِ الاختلافِ" (وثيقة الأخوّة البشرية).
الحوار والصلاة
إنَّ شجاعة الاختلاف هي روح الحوار الذي يقوم على صدق النوايا. والحوار في الواقع هو عرضة للازدواجيّة التي تزيد المسافة والشكّ: فليس بإمكاننا أن نعلن الأخوّة ونتصرّف بعدها عكس ذلك. بحسب أحد الكتّاب المعاصرين: "إنَّ الذي يكذب على نفسه ويُصغي إلى أكاذيبه، يصل إلى حدّ عدم القدرة على تمييز الحقيقة، لا في داخله ولا من حوله، ويبدأ هكذا بفقدان احترامه لنفسه وللآخرين"[5].
إنَّ الصَّلاة هي جوهريّة في هذا كلّه: فهي، فيما تجسّد شجاعة الاختلاف إزاء الله، وفي صدق النوايا، تنقّي القلب من الانغلاق على نفسه. الصَّلاة التي تُتلى من القلب، تجدّد الأخوَّة. لذلك "فيما يختصّ بمستقبل الحوار بين الأديان ينبغي علينا أوّلاً أن نصلّي. وأن نصلّي من أجل بعضنا البعض: نحن إخوة! بدون الربّ لا شيء ممكن، ولكن معه كلّ شيء يصبح ممكنًا! أرجو أن تُطابق صلاتُنا بالتمام –كلٌّ بحسب تقليده– مشيئةَ الله، الذي يريد أن يعترف جميع البشر بأنّهم إخوة وأن يعيشوا على هذا النحو ويؤسّسوا العائلة البشريّة الكبيرة في تناغم التنوّع"[6].
ليس هناك من بديل آخر: إمّا نبني المستقبل معًا وإلّا فلن يكون هناك مستقبل. لا يمكن للأديان، بشكلٍ خاص، أن تتخلّى عن الواجب الملحّ في بناء جسور بين الشعوب والثقافات. لقد حان الوقت للأديان أن تبذل ذاتها بشكل فعّال، وبشجاعة وإقدام، وبدون تظاهر، كي تساعد العائلة البشريّة على إنضاج القدرةِ على المصالحة، ورؤيةٍ ملؤها الرَّجاء، واتّخاذ مسارات سلام ملموسة.
التربية والعدالة
ونعود هكذا إلى الصورة الأولى لحمامة السَّلام. إن السَّلام أيضًا، كي يحلِّق، يحتاج إلى جناحَين يرفعانه، إنّه يحتاج إلى جناحَي التربية والعدالة.
تتطلّب التربية –وأصل الكلمة اللاتينيّ يعني الاستخراج والاستخلاص– أن نستخلص ونستخرج الموارد الثمينة في النفس. إنّه لأمر مشجّع أن نرى، في هذا البلد، أنّه لا يتمّ الاستثمار في استخراج موارد الأرض وحسب، بل أيضًا موارد القلب، أي في تربية الشبيبة. أتمنّى أن يستمرّ هذا الالتزام، وينتشر في مناطق أخرى. إنّ التربية تتمّ أيضًا في العلاقات والتبادليّة. يجب أن نضيف إلى القول القديم المأثور: "إعرف نفسك" قولاً آخر "إعرف أخاك": قصّته، ثقافته وإيمانه، لأنّه لا توجد معرفة حقيقيّة للذات بدون الآخر. كأشخاص، وبالأكثر كإخوة، علينا أن نذكّر بعضُنا البعضَ أنه لا يوجد أيّ أمر إنسانيّ يمكن أن يبقى غريبًا عنّا[7]. من الأهميَّة بمكان، بالنسبة للمستقبل، بناءُ هويّات منفتحة، قادرة على التغلّب على تجربة الانغلاق على الذات والتصلّب.
الاستثمار في الثقافة يعزّز انحسارَ الحقد ونموَّ الحضارة والازدهار. فللتربية تَناسُبٌ عكسيٌّ مع العنف. والمؤسّسات الكاثوليكيّة التربويّة –التي تحظى بالتقدير أيضًا في هذا البلد وفي المنطقة– تعزّز هذه التربية على السَّلام وعلى المعرفة المتبادلة من أجل تدارك العنف.
يحتاج الشباب، الذين غالبًا ما تحيط بهم رسائلُ سلبية وأنباءُ مزيّفة، إلى أن يتعلّموا عدم الاستسلام لإغراءات الماديّة والكراهيّة والأحكام المسبقة؛ لأن يتعلّموا كيفيّة التصدّي للظلم ولخبرات الماضي الأليمة؛ لأن يتعلّموا الدفاع عن حقوق الآخرين بالحماسة نفسها التي يدافعون فيها عن حقوقهم. سيكونون هم من سيحكمون علينا يومًا ما: إيجابًا، إذا ما قدّمنا لهم أُسسًا صلبة لخلق لقاءاتٍ جديدة من التحضّر؛ وسلبًا، إذا ما تركنا لهم مجرّد سرابٍ وتطلّعات كئيبة من الصدامات الشائنة وغير الحضاريَّة.
العدالة هي الجناح الثاني للسَّلام، التي غالبًا ما لا تتضرّر بفعل أحداث فرديّة، لكنّها تتآكل ببطء جرّاء سرطان الظلم. فالعدل "القائمَ على الرَّحمةِ هو السبيلُ الواجبُ اتِّباعُه للوُصولِ إلى حياةٍ كريمةٍ، يحقُّ لكُلِّ إنسانٍ أن يَحْيَا في كَنَفِها" (وثيقة الأخوّة البشرية).
ومن ثمَّ، لا يمكن أن نؤمن بالله وألّا نسعى إلى عيش العدالة مع الجميع، بحسب القاعدة الذهبيَّة: "فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ" (متى 7، 12).
إنَّ السَّلام والعدالة لا ينفصلان أبدًا! قال النبي أشعيا "وَيَكُونُ صُنْعُ الْعَدْلِ سَلاَمًا" (32، 17). فالسَّلام يموت عندما ينفصل عن العدالة، لكن العدالة تكون مزيفةً إنْ لم تكُن كونيّة. فالعدالة الموجهّة فقط إلى أفراد العائلة، وأبناء الوطن، ومؤمني الديانة نفسها، هي عدالةٌ عرجاء، إنّها ظلم مقنّع!
للديانات أيضًا واجبُ التذكير بأن جشع الربح يجعل القلب دون حراك، وبأن قوانين السوق الحاليّة، التي تطالب بكلّ شيء وعلى الفور، لا تساعد اللقاء والحوار والعائلة والأبعاد الأساسيَّة للحياة التي تحتاج لوقت ولصبر. لتكن الأديانُ صوتَ المهمّشين، الذين ليسوا إحصاءات إنّما إخوة، ولتقف الأديان إلى جانب الفقراء؛ ولتسهر كحارسة الأُخُوَّة في ليل الصراعات؛ ولتكن ناقوسًا ساهرًا كي لا تغلق الإنسانيّةُ عينَيها أمام الظلم وكي لا تستسلم أبدًا أمام مآسي العالم الكثيرة.
الصحراء التي تُزهر
بعد أن تحدّثتُ عن الأخوّة كفُلكِ سلامٍ أودّ الآن الاستلهام من صورة ثانية، صورة الصحراء المحيطة بنا.
هنا، وخلال سنوات قليلة، وبفضل بُعد النظر والحكمة، تحوّلت الصحراء إلى مكان مزدهر ومضياف؛ الصحراء التي كانت حاجزًا عسيرًا ومنيعًا، صارت مكانًا للّقاء بين الثقافات والديانات. لقد أزهرت الصحراء هنا، ليس فقط لأيّام قليلة في السنة، إنّما لسنوات كثيرة في المستقبل. إنّ هذا البلد، الذي تعانقُ فيه الرمالُ ناطحاتَ السحاب، يبقى تقاطعًا هامًا بين الشرق والغرب، بين شمال الأرض وجنوبها، يبقى مكانًا للنمو، حيث الفسحاتُ، التي لم تكن مأهولة في السَّابق، تقدّم اليوم فرص عمل لأشخاص من أمم مختلفة.
بيد أن النموّ أيضًا له أعداؤه. وإن كانت الفردانية هي عدوّ الأخوّة، أودّ الإشارة إلى أن عائق النموّ هو اللامبالاة، والتي تؤول إلى تحويل الواقع المزهر إلى أرضٍ قاحلة. إن النموّ المنفعيّ البحت، في الحقيقة، لا يوفّر تقدّمًا واقعيًّا ومستدامًا. فوحده النموّ المتكامل والمتماسك يقدّم مستقبلاً لائقًا بالإنسان. إن اللامبالاة تَحُول دون النظر إلى الجماعة البشريّة، أبعد من نطاق الربح، وإلى الأخ أبعد من نطاق العمل الذي يقوم به. اللامبالاة، في الواقع، لا تنظر إلى الغد؛ لا تكترث لمستقبل الخليقة، لا تعتني بكرامة الغريب وبمستقبل الأطفال.
في هذا السياق، أعبّر عن سروري بأن أوّل منتدى دولي للتحالف بين الأديان من أجل مجتمعات أكثر أمانًا، حول مسألة كرامة الطفل في العصر الرقميّ، قد عُقد هنا في أبو ظبي في نوفمبر / تشرين الثاني الماضي. لقد استأنف هذا الحدثُ الرسالةَ التي أُطلِقت قبل عام في روما، في المؤتمر الدولي حول الموضوع نفسه، والذي قدّمت له دعمي وتشجيعي الكاملين. إني أشكر بالتالي كلّ القادة الملتزمين في هذا المجال، وأؤكّد لهم دعم وتضامن ومشاركة شخصي والكنيسة الكاثوليكيّة في هذه القضيّة البالغة الأهمّية، قضيّة حماية القاصرين في كلّ أوجهها.
هنا في الصحراء فُتِحَت دربٌ خصبة للنموّ تقدّم، انطلاقًا من العمل، آمالاً لأشخاص كثيرين ينتمون إلى شعوب وثقافات ومعتقدات مختلفة. ومن بين هؤلاء العديد من المسيحيِّين، الذين يعود تواجدهم في المنطقة إلى القرون الغابرة، وقد وجدوا فرصًا وقدّموا إسهامًا هامًا في نموّ البلاد ورخائها. إن هؤلاء يحملون معهم أصالة إيمانهم فضلًا عن قدراتهم المهنيّة. إن الاحترام والتسامح اللذين يلقونهما، كما دُور العبادة الضرورية من أجل الصلاة، تسمح لهم بالنضوج روحيًّا بشكل يعود بالفائدة على المجتمع بأسره. أشجّع على الاستمرار في هذه الدرب، كي يتمكّن المقيمون والزوّار من الاحتفاظ، ليس فقط بصورة الأعمال العظيمة التي أُقيمت في الصحراء، إنَّما أيضًا بصورة أمّة تقبل وتعانق الجميع.
بهذه الرُّوح، أتمنّى أن تبصر النور، ليس هنا فقط بل في كلّ منطقة الشرق الأوسط الحبيبة والحيويّة، فرصٌ ملموسة للقاء: مجتمعاتٌ يتمتّع فيها أشخاصٌ ينتمون إلى ديانات مختلفة بحقّ المواطنة نفسِه، وحيث لا يُنتزع هذا الحقّ إلّا من العنف، بجميع أشكاله.
تعايش أخويّ، يرتكز على التربية والعدالة؛ نموّ بشريّ، يقوم على الإدماج المضياف وعلى حقوق الجميع: هذه هي بذور سلامٍ، ينبغي على الديانات أن تُنبِتَها. في هذه المرحلة التاريخيَّة الدقيقة، يقع على عاتق الديانات، ربّما أكثر من أيّ وقت مضى، واجبٌ لا يمكن إرجاؤه بعد اليوم: الإسهام بشكل فاعل في تجريد قلب الإنسان من السِّلاح. إنَّ سباق التسلّح، وتمديد مناطق النفوذ، والسياسات العدائيّة، على حساب الآخرين، لن تؤدّي أبدًا إلى الاستقرار. الحرب لا تولّد سوى البؤس، والأسلحةُ لا تولّد سوى الموت!
إنَّ الأخوّة البشريّة تتطلّب منّا، كممثّلي الأديان، واجبَ حظر كلّ تلميح إلى الموافقة على كلمة "حرب". دعونا نعيد هذه الكلمة إلى قسوتها البائسة. فأمام أعيننا نجد نتائجها المشؤومة. أفكّر بنوع خاص باليمن، وسوريا والعراق وليبيا. لنلتزم معًا، كأخوة في العائلة البشريّة الواحدة التي شاءها الله، ضدّ منطق القوّة المسلحة، ضدّ تقييم العلاقات بوزنها الاقتصادي، ضدّ التسلّح على الحدود وبناء الجدران وخنق أصوات الفقراء؛ لنواجه كلّ هذه الأمور بواسطة قوّة الصلاة العذبة والالتزام اليوميّ في الحوار. ليكن وجودُنا معًا اليوم رسالةَ ثقة، وتشجيعًا لجميع الأشخاص ذوي الإرادة الحسنة، كي لا يستسلموا أمام طوفان العنف، وأمام تصحّر الغيريّة. والله هو مع الإنسان الذي يبحث عن السَّلام. ومن السَّماء يبارك كلّ خطوة تُتّخذ على الأرض في هذا الاتّجاه.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019
[1]بندكتس السادس عشر، كلمة البابا للسفراء الجدد المعتمدين لدى الكرسي الرسولي، 16 ديسمبر / كانون الأول 2010.
[2]رسالة اليوم العالمي للسلام 1 يناير / كانون الثاني 2015.
[3] بيان في علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحية "في عصرنا"، عدد 5.
[4] را. كلمة البابا إلى المشاركين في المؤتمر العالمي من أجل السلام، قاعة مؤتمرات الأزهر، القاهرة 28 أبريل / نيسان 2017.
[5] فيودور دوستويفسكي، الإخوان كارامازوف، الجزء الثاني، 2، ميلانو 2012، ص 60.
[6]المقابلة العامة ما بين الأديان، 28 أكتوبر / تشرين الأول 2015.
[7]ق.ترينزو Terenzio، الذي يعاقبُ نفسَهHeautontimorumenos، الجزء الأول، 1، ص 25.