كلمة قداسة البابا إلى الشعب المغربي، والسلطات

متفرقات

كلمة قداسة البابا إلى الشعب المغربي، والسلطات

 

 

 

صاحب الجلالة،

 

أصحاب السمو الملكي،

 

سلطات المملكة المغربية الموقرة،

 

أعضاء السلك الدبلوماسي،

 

أيها الأصدقاء المغاربة الأعزاء،

 

السلام عليكم!

 

 

 

يسرني أن تطأ قدماي أرض هذا البلد، الغني بالجمال الطبيعي، الحارس لبصمات حضارات عريقة والشاهد على تاريخ مدهش. أود قبل كلّ شيء أن أعبِّر عن امتناني الصادق والودّي لجلالة الملك محمد السادس على دعوته الكريمة، وعلى الاستقبال الحار الذي خصّني به، باسم الشعب المغربي كلّه، وأشكره بنوع خاص على الكلمات الطيبة التي وجهّها لي.

 

 

 

تشكل هذه الزيارة بالنسبة لي مدعاة فرح وامتنان لأنّها تسمح لي، قبل كلّ شيء، أن أكتشف غنى أرضكم وشعبكم وتقاليدكم. امتنان يتحوّل إلى فرصة هامة لتعزيز الحوار بين الأديان والتعارف المتبادل بين مؤمني ديانتينا، فيما نحيي ذكرى اللقاء التاريخيّ -في مئويته الثامنة- بين القدّيس فرنسيس الأسيزي والسلطان الملك الكامل. ويظهر هذا الحدث النبويّ أنّ شجاعة اللقاء واليد الممدودة هما سبيل للسلام والتناغم للبشريّة، حيث يشكّل التطرف والحقد عاملين للانقسام والدمار. كما أتمنى أن يساهم التقدير والاحترام والتعاون بيننا في توطيد روابط الصداقة الحقيقيّة، كي تتاح الفرصة أمام جماعاتنا لإعداد مستقبل أفضل للأجيال الصاعدة.

 

 

 

 

أودّ أن أؤكّد، من على هذه الأرض، التي تشكّل جسرًا طبيعيًّا بين قارتيّ أفريقيا وأوروبا، على ضرورة توحيد جهودنا من أجل إعطاء دفع جديد لعمليّة بناء عالم أكثر تضامنًا، وأكثر التزامًا في الجهد النزيه والشجاع والضروريّ لحوار يحترم غنى وخصوصيّات كلّ شعب وكلّ شخص. وهذا تحدٍّ علينا أن نواجهه جميعا، خصوصا في هذا الزمن الذي قد تتحوّل فيه الاختلافات وسوء الفهم المتبادل، إلى أسباب للسِّجال والتشرذم.

 

 

 

يجب بالتالي، من أجل المشاركة في بناء مجتمع منفتح وتعدّدي ومتضامن، أن نطوّر ثقافة الحوار ونتبناها باستمرار وبدون تراجع، كدرب ينبغي اتّباعها؛ ونتبنّى التعاون المشترك كسلوك؛ والتعارف المتبادل كنهج ومعيار (وثيقة الأخوة الإنسانية، أبو ظبي، 4 فبراير / شباط 2019). هذا هو الدرب الذي نحن مدعوّون لاتّخاذه دون كلل، كي نساعد بعضنا البعض على تخطي التوترات وسوء الفهم، والأقنعة والصور النمطيّة التي تقود دومًا إلى الخوف والتصادم؛ وهكذا نفتح الطريق أمام روح من التعاون المثمر والمتسم بالاحترام. فمن الضروريّ أن نجابه التعصب والأصوليّة عبر تضامن جميع المؤمنين، جاعلين من قيمنا المشتركة مرجعًا ثمينًا لتصرفاتنا. في هذا السياق، يسرّني أن أزور بعد قليل "معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات"، والذي شئتموه يا صاحب الجلالة، بهدف توفير تنشئة ملائمة وسليمة ضدّ كلّ شكل من أشكال التطرّف الذي غالبًا ما يقود إلى العنف والإرهاب، ويمثّل، في جميع الحالات، إساءة إلى الدين وإلى الله نفسه. إنّنا ندرك في الواقع مدى أهميّة توفير تنشئة ملائمة للقادة الدّينيين في المستقبل، إذا ما أردنا أن نعيد إحياء المعاني الدينيّة الحقيقيّة في قلوب الأجيال الصاعدة.

 

 

لذا فإن حوارًا أصيلا يدعونا لعدم التقليل من أهميّة العنصر الدينيّ من أجل بناء جسور بين البشر والنجاح في مواجهة التحديات المشار إليها آنفا. في الواقع، إنّ الإيمان بالله، وفي إطار احترام اختلافاتنا، يحملنا على الإقرار بالكرامة السامية لكلّ كائن بشريّ، فضلا عن حقوقه غير القابلة للتصرّف أو المساومة. إنّنا نؤمن بأنّ الله قد خلق الكائنات البشريّة متساوية في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاها إلى العيش كأخوة وإلى نشر قيم الخير والمحبّة والسَّلام. لهذا السبب بالذات إن حرية الضمير والحرية الدينية -التي لا تقتصر على حرية العبادة وحسب، بل يجب أن تسمح لكل فرد بالعيش بحسب قناعاته الدينيّة- ترتبطان ارتباطا وثيقا بالكرامة البشريّة. بهذا الرّوح، نحن بحاجة دومًا إلى الانتقال من مجرّد التسامح إلى احترام الآخرين وتقديرهم. لأنّها مسألة تتعلّق باكتشاف الآخر وقبوله في خصوصيّة إيمانه، وأن نغتني من بعضنا البعض عبر الاختلاف، في إطار علاقة مطبوعة بحسن النوايا وبالبحث عمّا يمكن أن نحقّقه سويًّا. فبناء الجسور بين البشر، بهذا المفهوم، ومن وجهة نظر الحوار بين الأديان، يتطلّب أن يُعاش تحت راية التعايش والصداقة، بل والأخوّة أيضا.

 

 

 

إنّ المؤتمر الدولي حول حقوق الأقليّات الدينيّة في الديار الإسلاميّة، الذي عقد في مراكش في يناير / كانون الثاني 2016، قد تطرّق إلى هذا الموضوع. ويسرّني أن يكون هذا المؤتمر قد سمح بشجب كلّ استخدام لدين بهدف تبرير التمييز أو التهجّم على باقي الأديان، مسلطًا الضَّوء على أهميَّة تخطّي مفهوم الأقليّة الدينيّة، من أجل تعزيز مفهوم المواطنة والاعتراف بقيمة الشخص، الذي ينبغي أن يكتسب صفة مركزيّة في كلِّ نظام قانونيّ.

 

 

 

 

أرى أيضًا علامة نبويَّة في إنشاء معهد الموافقة المسكونيّ لعلم اللاهوت في الرباط، في العام 2012، بمبادرة كاثوليكية وبروتستانتية في المغرب، معهد يودّ الإسهام في تعزيز المسكونيّة، فضلا عن الحوار مع الثقافة ومع الإسلام. إنّ هذه المبادرة الجديرة بالثناء تعبِّر عن قلق المسيحيِّين المقيمين في هذا البلد ورغبتهم في بناء جسور للتعبير عن الأخوّة البشريّة وخدمتها.

 

 

 

إنّها كلّها مسارات ستوقف "استخدام الأديان في تأجيج الكراهيّة والعنف والتطرّف والتعصُّب الأعمى، والكفّ عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش" (وثيقة الأخوة الإنسانية، أبو ظبي، 4 فبراير / شباط 2019).

 

 

إنّ الحوار الأصيل الذي نريد تطويره يحملنا أيضا على الأخذ في عين الاعتبار العالم الذي نعيش فيه، بيتنا المشترك. لذا، فإن المؤتمر الدولي حول التغيرات المناخيّة، كوبCOP 22 ، الذي عقد هنا في المغرب، أظهر مرَّة أخرى وعي العديد من الدول لضرورة حماية الكوكب الذي جعلنا الله فيه، كي نعيش ونساهم في توبة إيكولوجيّة حقيقيَّة، من أجل تنمية بشريَّة متكاملة. وأودّ التعبير عن تقديري لكلِّ الخطوات التي اتّخذت في هذا الاتِّجاه، وأرحب بإقامة تضامن حقيقيّ بين الأمم والشعوب، من أجل إيجاد حلول عادلة ودائمة للآفات التي تهدّد البيت المشترك وبقاء العائلة البشريّة. فسويًّا، وفي حوار صبور ورشيد وصريح وصادق، باستطاعتنا أن نأمل في إيجاد أجوبة ملائمة، من أجل تغيير مسار الاحتباس الحراريّ والنجاح في استئصال الفقر (الرسالة العامة كن مسبحا، 175).

 

 

 

 

على حدٍّ سواء، فإن أزمة الهجرة الخطيرة التي نواجهها اليوم تشكّل بالنسبة للجميع دعوة ملحة إلى البحث عن الوسائل الملموسة من أجل استئصال الأسباب التي تجبر أشخاصا كثيرين على هجر بلادهم، وعائلاتهم، وغالبًا ما يجدون أنفسهم مهمَّشين ومنبوذين. من هذا المنظار، عقد هنا في المغرب، في شهر ديسمبر / كانون الأول المنصرم، المؤتمر الحكومي الدولي لاعتماد الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظاميّة، وتبنّى وثيقة تبتغي أن تكون نقطة مرجعيَّة للمجتمع الدولي بأسره. إنّنا ندرك في الوقت نفسه أن الطريق أمامنا ما تزال طويلة خصوصا نظرًا إلى ضرورة الانتقال من الالتزامات المعلنة من خلال تلك الوثيقة، أقلّه على المستوى الأدبي، إلى خطوات ملموسة، وتغيير الموقف، بنوع خاص، حيال المهاجرين كي يعاملوا كأشخاص، لا كأرقام، ويتمّ الإقرار بحقوقهم وكرامتهم، من خلال الأفعال الملموسة والقرارات السياسيّة. أنتم تعلمون مدى حرصي على مصير هؤلاء الأشخاص، الذي غالبًا ما يكون مروعا، والذين بمعظمهم، ما كانوا ليتركوا بلادهم إن لم يجبروا على ذلك.

 

 

 

آمل أن يبقى المغرب، الذي استضاف هذا المؤتمر بجهوزيّة كبيرة وحسن ضيافة، نموذجًا للإنسانيّة –وسط الجماعة الدوليّة– بالنسبة للمهاجرين واللاجئين كي ينالوا، هنا كما في أماكن أخرى، الضيافة الإنسانيّة والحماية، وكي تحسن أوضاعهم ويتمّ دمجهم بكرامة. وعندما تسمح لهم الأوضاع، يكون بإمكانهم اختيار العودة إلى ديارهم في ظروف آمنة، تحترم كرامتهم وحقوقهم. إنّ الأمر يتعلّق بظاهرة لن تحل على الاطلاق من خلال بناء الحواجز، ونشر الخوف من الآخر أو رفض مساعدة من يطمحون بطريقة مشروعة إلى تحسين أوضاعهم وأوضاع عائلاتهم. نعلم أيضًا أنَّ إرساء أسس سلام حقيقيّ، يمرّ عبر البحث عن العدالة الاجتماعيَّة، التي لا مفرَّ منها من أجل تصحيح الخلل الاقتصاديّ والسياسيّ الذي كان وما يزال عنصرًا أساسيًّا للتوتر وعامل تهديد بالنسبة للبشريَّة بأسرها.

 

 

 

صاحب الجلالة، أيّتها السلطات الموقرة، أيُّها الأصدقاء الأعزاء! يفرح المسيحيُّون بالمكانة التي خصّصت لهم داخل المجتمع المغربي. إنّهم يريدون أن يقوموا بدورهم في عمليّة بناء أمَّة متضامنة ومزدهرة، وهم حريصون على الخير العامّ للشعب. من هذا المنطلق، أرى أنّ التزام الكنيسة الكاثوليكيَّة في المغرب عبر نشاطاتها الاجتماعيَّة، وفي مجال التربية، من خلال مدارسها المفتوحة أمام الطلاب من كلِّ طائفة ودين وعرق، هو أمر ذو دلالة. لذا، وفيما أرفع الشكر لله على المسيرة التي تمّ إنجازها، اسمحوا لي أن أشجِّع الكاثوليك والمسيحيِّين على أن يكونوا هنا، في المغرب، خدَّاما للأخوة الإنسانيّة، ومروجين لها ومدافعين عنها.

 

 

 

صاحب الجلالة، أيّتها السلطات الموقرة، أيّها الأصدقاء الأعزاء! أشكركم مرَّة جديدة، كما أشكر الشعب المغربي بأسره، على ضيافتكم الحارة وعلى حسن إصغائكم. شكرا بزاف! ليحفظكم الكلي القدرة والرحمن الرحيم، وليبارك المغرب! شكرا.

 

 

 

 

الزيارة الرسولية إلى مملكة المغرب

كلمة قداسة البابا فرنسيس

إلى الشعب المغربي، والسلطات، وممثلي المجتمع المدني

وأعضاء السلك الدبلوماسي

مدينة الرباط، 30 مارس / آذار 2019

موقع الكرسي الرسولي