مساهمة الدين المسيحي في مكافحة العنف، من أجل تعزيز الحوار والعيش المشترك
مقاربة لاهوتية للبطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي
1. يسعدني أن أشارك في هذا المؤتمر الدولي، وأوجّه تحيّة خالصة إلى سعادة الأمين العام فيصل بن عبد الرحمن بن معمّر، وأشكره على دعوته الكريمة للمشاركة في المؤتمر. كما أحيّي كلّ الشخصيّات المشارِكة. تتناول مداخلتي موضوع "مساهمة الدين المسيحي في مكافحة العنف، من أجل تعزيز الحوار والعيش المشترك. مقاربة لاهوتية"[1].
يؤكّد الإيمان المسيحي أنّ العنف باسم الله، أو باسم الدّين، انحراف عقائدي حقيقي، منافٍ لتعليم الإنجيل. فالربّ يسوع المسيح ترك لنا مثالًا في آلامه وموته لفداء الجنس البشري. فهو، على ما كتب بطرس الرّسول، "كان يُشتَم ولا يردّ الشّتم، ويتألّم ولا يهدّد، بل يسلّم نفسه لله الذي يحكم بالعدل" (1بطرس 2: 23).
لقد قاسى شخصيًّا العنف البشري لكي ينتصر عليه، وبادل العنف بغفران حبّه الفادي. وهكذا دمّر العنف الدّيني من جذوره بقوّة المحبّة. من هذا المنطلق، ليس من مبرِّر للعنف، لا من أجل الإنتقام لحقوق الله، ولا لإنقاذ البشر رغمًا عنهم، لأنّ الحقيقة لا تفرض نفسها إلّا بقوّة الحقيقة ذاتها التي تنساب إلى العقل بفاعلية ولطف[2].
وبذلك أعطى السيد المسيح أمثولة مثلّثة: أن يتبع المسيحيّون خطى سيّدهم بنشر ثقافة الغفران والسلام بوجه العنف؛ أن يدركوا أنّ طريق القيامة بالمسيح يمرّ عبر الغفران المُعاش بإيمان شجاع وصامد، لا بالخنوع والضعف؛ أن يلتزموا برسالة المصالحة التي سلّمها السيّد المسيح للكنيسة، كي تساعد المؤمنين على تحقيق الاتّحاد بالله، وتوطيد الوحدة فيما بينهم.
2. لقد مرّت المسيحيّة بأوقات عديدة من عدم التّماسك وعدم الإخلاص لهذا التّعليم الإنجيلي وللرسالة، بسبب استغلال الدين المسيحي لأغراض غريبة عنه، فكان يُساء استخدامه في العنف السّياسي. هذا كان يحصل عندما كانت المسيحيّة دينًا ودولة غير منفصلَين. ولكنها عندما فصلت الدين عن الدّولة، عملًا بقول السيّد المسيح: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" (مر12: 17)، توقّف ارتكاب العنف باسم الدين المسيحي.
3. رُبَّ معترض يقول أنّ العلاقة بين الله والعنف نجدها واضحة تمامًا في الكتاب المقدّس بعهده القديم، الذي تعترف به المسيحيّة ولا تفصله عن العهد الجديد.
صحيح هذا الإعتراض. فالرّباط بين العهدَين رباط عضوي، بحيث أنّ "العهد القديم ينكشف في العهد الجديد، والعهد الجديد مختبئ في القديم"[3]. ولكن يجب تفسير هذه الصفحات المظلمة في تاريخ الخلاص، التي نجدها في نصوص العهد القديم. نقرأ في مطلع الرسالة إلى العبرانيّين: "كلّم الله آباءنا من قديم الزّمان بلسان الأنبياء مرّاتٍ كثيرة، وبأنواعٍ شتّى. لكنّه في هذه الأيّام الأخيرة كلّمنا بابنه الذي جعله وارثًا لكلّ شيء، وبه خلق العالم. هو بهاء مجد الله وصورة جوهره وضابط الكلّ بقوّة كلمته" (عبرا 1: 1-3).
هذا يعني أنّ الإستماع إلى كلام الله، في تاريخ الشعب القديم، السابق للمسيح، تطلَّب تنشئة بطيئة. هذا الشعب عاش في بيئات لوّثت التديّن بآثار صراعات الديانات المجاورة. فكان لا بدّ من خلال كلام الأنبياء أن يسير الشّعب في عمليّة نضج بطيئة، حتى وصل النضج إلى جديده الكامل بشخص يسوع المسيح وبالثقافة المسيحانية التي أطلقها، وسلّمها لكنيسته كي تنشرها بين الشعوب.
لم تقبل المسيحيّة يومًا برفض أسفار العهد القديم المقدّسة، ولم تعتبر أبدًا أنّ "إله" ذلك الوحي القديم مناقضٌ لوحي يسوع المسيح. فلا يمكن أن يتأسّس الجديد المسيحي على إنكار ما سبق.
4. نحن في زمن يُمارَس فيه العنف باسم الله والدّين، بينما الله والدّين يحرّمانه، لأنّه يشوّه وجهَيهما. ولكن سادت الفكرة المسبقة، التي تنتشر "كثقافة" لعالم اليوم، وهي أنّ الديانات التوحيديّة تشكّل بطبيعتها عامل انقسام بين البشر.
فكانت المناداة بحلّ وحيد قادر على وضع حدّ للعنف، وعلى ضمان السلام، هو علمنة المجتمع. فاعتبروا أنه يوجد في الديانات التوحيديّة إله واحد هو بطبيعته غيور، لا يقبل بأيّ إله آخر إلى جانبه، في حين أنّ الآلهة الوثنيّة، بحكم طبيعتها، متسامحة، وتقبل بالتنوّع (المفكِّر الألماني شوبنهاور). فكان الاقتراح البديل عن الديانات التوحيدية تعدّد الآلهة كدين أكثر ملاءمة للتعدّدية والتسامح اللَّذين هما من سمات المجتمع المدني.
تجدر الإشارة إلى أن خلفيّة هذا الموقف السلبي تتمثّل في تيّار النسبية المتناغم مع متطلّبات الديموقراطيّة الليبراليّة، إذ يعتبر أن أي سلوك يشير إلى حقيقة متسامية شاملة ومطلقة، كأيّ دين توحيدي، إنّما يشكّل تهديدًا للسلم الأهلي.
ولكن، يذكّرنا التاريخ بالعنف الذي مارسته المملكة الهلّينية السلوفية الوثنية على المكابيين، وبالاضطهاد العنيف الذي مارسته الأمبراطورية الرومانية الوثنية على المسيحيين طيلة القرون الثلاثة الأول من تاريخ المسيحيّة. وما القول اليوم عن "الوثنية" الجديدة التي "تؤلّه" الفرد والأنظمة!
وفي هذا الزمن أيضًا، ينتشر العنف السياسي الذي تحرّكه العلمنة والإلحاد والمطامع السياسية والاستراتيجيات الاقتصادية. وهو عنف ظاهر في افتعال الحروب، ووأد نارها، وتوزيع أسلحتها، واستخدام منظّمات إرهابيّة ومرتزقة، كما شهدنا ومازلنا في الحروب التي دمّرت بلدانًا من بلداننا الشَّرق أوسطيّة.
5. إنّها الفرصة المناسبة للجميع، المعروفة بلفظة Kairos، وهي "فرصة حقيقية للروح" الذي يعطي الرّجاء للشعوب، ويفتح أمامهم مستقبلًا أفضل. هذا المستقبل يبنيه الإيمان المسيحي على حقائقه الثلاث الأساسية: وحدانية الله وثالوثيته: الآب والابن والروح القدس؛ تجسّد الابن يسوع المسيح وآلامه وموته لفداء البشر وتبريرهم؛ وحلول الروح القدس الذي يقود إلى معرفة الحقيقة كلّها.
في ضوء هذه الفرصة طوت الكنيسة صفحة العنف الديني، وزرعت في حقل العالم بذرة قادرة على إنتاج ثمار نبذ العنف باسم الله أو الدين، في عصرنا الذي ينشر الكراهية والعرقية السياسية وفوبيا الإسلام[4].
6. "فرصة الروح" هي أيضًا للدين الإسلامي الذي شوّهت صورته وجوهره المنظمات الإرهابية بممارستها العنف وزرع الرعب باسم الله وباسم الإسلام.
أدرك المسلمون "فرصة الروح" هذه بالنسبة إليهم، فأعلنوا أنّ الإسلام براء من الذين يمارسون العنف والإرهاب باسم الله والدين الإسلامي.
ففي "إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي"، الذي صدر في 27 يناير 2016، في ختام اجتماع حوالي 300 شخصيّة من علماء المسلمين، من أكثر من 120 بلدًا، بمناسبة مرور 1400 سنة على"صحيفة المدينة"، اعتبر المجتمعون أنّ "الجرائم التي تُرتكب باسم الإسلام وشريعته بحقّ الأقلّيات الدّينيّة، تقتيلًا واستعبادًا وتهجيرًا وترويعًا وامتهانًا للكرامة، إنّما هي افتراء على الباري جُلَّ وعلا، وعلى رسول الرّحمة، وافترئات على أكثر من مليار من البشر؛ وتعرّض دينهم وسمعتهم للوصم والتّشويه، وأصبحوا عُرضة لسهام الإشمئزاز والنفور والكراهيّة، مع أنّهم لم ينجوا ولم يسلموا من ويلاتها" (المقدّمة)
7. وفي "إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك" الصادر في 2 مارس 2017 عن مؤتمر الأزهر الدّولي، نقرأ: "نظرًا لِما استشرى في العقود الأخيرة من ظواهر التطرّف والعنف والإرهاب التي يتمسّح القائمون بها بالدّين، وما يتعرّض له أبناء الدّيانات والثّقافات الأخرى في مجتمعاتنا من ضغوط وتخويف وتهجير وملاحقات واختطاف، فإنّ المجتمعين من المسيحيّين والمسلمين يعلنون أنّ الاديان كلّها براءٌ من الإرهاب بشتّى صوره، وهم يدينونه أشدّ الإدانة، ويستنكرونه أشدّ الإستنكار... ويرون أنّ محاكمة الإسلام بسبب التصرّفات الإجراميّة لبعض المنتسبين إليه إنما تفتح الباب على مصراعَيه لوصف الأديان كلّها بصفة الإرهاب؛ ممّا يبرّر لغُلاة الحداثيّين مقولتهم في ضرورة التّخلّص من الأديان بذريعة استقرار المجتمعات" (الإعلان، ثالثًا).
8. واليوم، إذ يعتزم هذا المؤتمر الدّولي الذي يجمعنا إصدار "المنصّة الإقليميّة للحوار والتّعاون بين القيادات والمؤسّسات الدينيّة في العالم العربي"، نرانا مجدّدًا أمام "فرصة الروح". ففي طليعة حيثيّات الوثيقة التّأسيسيّة "الوعي بأنّ الأحداث المؤلمة التي يمرّ بها العالم العربي منذ عقدَين أدّت إلى تهديد حقيقي لتنوّع النسيج الإجتماعي، بالإضافة إلى كونها تشكّل خطرًا حقيقيًّا للتعايش السّلمي والتماسك بين المكوّنات الدينيّة في المنطقة. ثمّ العزم بمشيئة الله أن نبذل ما بوسعنا لتجنيب شعوب المنطقة ويلات الحرب والتّطرّف والعنف، خاصّة باسم الدين، وغرس قيم الحوار والتّعايش السّلمي والمواطنة المشتركة".
9. فيما نتمنّى النجاح الكامل لهذا المؤتمر، ولثماره الظاهرة في "المنصّة الإقليمية للحوار" التي ستُقرّر فيه، نشكر الله على "فرصة الروح" هذه، آملين أن يوضع حدٌّ نهائي للعنف باسم الله والدين، حفاظًا على قدسيّة الله الفائقة، وعلى كرامة الأديان وقدسية تعاليمها.
مع الشكر لإصغائكم!
* * *
[1] مصادر هذه الدراسة الأساسية، فضلًا عن المراجع المذكورة في صدر النص وفي الحواشي، هي إعلان المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني حول "علاقات الكنيسة مع الديانات غير المسيحيّة (28 تشرين الأول 1965)؛ وثيقة اللجنة اللاهوتية الدولية: "الله الثالوث، وحدة البشر، التوحيد المسيحي ضد العنف" (6 كانون الاول 2013)؛ إعلان مجمع عقيدة الإيمان: "الربّ يسوع" حول وحدانيّة الخلاص وشموليّته في يسوع المسيح والكنيسة (6 آب 2000)؛ مقال الأب خافيير براديس: "رفض المسيحيّة للعنف الديني: فرصة للجميع" في مجلّة OASIS، عدد 20 كانون الأول/دسمبر 2014، صفحة 12-17.
[2] إعلان المجمع الفاتيكاني الثاني: الكرامة البشرية، حول الحريّة الدينية، 1.
[3] الدستور المجمعي: كلمة الله، 16.
[4] راجع وثيقة اللجنة اللاهوتية الدولية، 64-65.
موقع بكركي.