في إطار الاحتفال "بيوبيل الرحمة" التقى قداسة البابا فرنسيس عصر الثلاثاء في القصر الرسولي بالفاتيكان الكهنة الذين سيُرسلهم يوم غد الأربعاء خلال رتبة الرماد ليكونوا مرسلي الرحمة في الكنيسة ويحملوا للجميع سرّ رحمة الآب الذي لا يعرف الحدود، وللمناسبة ألقى الأب الأقدس كلمة رحّب بها بضيوفه وقال:
أن يكون المرء مرسلاً للرحمة هي مسؤولية توكل إليكم لأنها تتطلّب منكم أولاً أن تكونوا شهودًا لقرب الله ولأسلوبه في المحبة.
أريد أن أقدّم لكم بعض التأملات المقتضبة لكي تحققوا هذه المهمّة التي ستنالونها كمساعدة ملموسة للعديد من الأشخاص الذين سيقتربون منكم. وبالتالي أرغب بتذكيركم أولاً أنكم مدعوون في هذه الخدمة للتعبير عن أمومة الكنيسة. إن الكنيسة أم لأنها تولد على الدوام أبناء جددًا في الإيمان؛ الكنيسة أم لأنها تغذّي الإيمان؛ والكنيسة أم أيضًا لأنها تقدّم مغفرة الله وتخلقنا مجدّدًا لحياة جديدة ثمرة الارتداد.
لا يمكننا أن نخاطر بألا يشعر التائب بالحضور الوالدي للكنيسة التي تقبله وتحبّه. إن غاب هذا الإدراك بسبب قساوتنا وتصلّبنا فسيشكل الأمر أذى كبيرًا للإيمان أولاً لأنه سيمنع التائب من رؤية نفسه مندرجًا في جسد المسيح، كما سيحُدُّ أيضًا من شعوره بأنّه جزء من جماعة معيّنة.
أما نحن فمدعوون لنكون تعبيرًا حيًّا للكنيسة التي وكأمٍّ تقبل كلَّ من يقترب منها عالمًا أنه من خلالها ندخل في المسيح. لنتذكّر دائمًا لدى دخولنا إلى كرسي الاعتراف أن المسيح هو الذي يقبل وهو الذي يصغي، أن المسيح هو الذي يغفر وهو الذي يمنح السلام، أمّا نحن فخدامه وأول المحتاجين لمغفرته.
لذلك مهما كانت الخطيئة التي يعترف بها الشخص – أو حتى تلك التي لا يجرؤ على قولها ولكنه يجعلنا نفهمها، فهذا أمر كافٍ – ينبغي على كل مرسل أن يتذكّر خطيئته ويضع نفسه بتواضع كـ "قناة" لرحمة الله.
وأعترف أمامكم بشكل أخوي أن ذكرى اعترافي في الحادي والعشرين من أيلول عام 53، والذي قد أعاد لي توجيه حياتي، تشكل لي مصدر فرح كبير. ماذا قال لي الكاهن يومها؟ لا أذكر! ولكنني أذكر أنه ابتسم وقبلني كأب...
هناك جانب آخر مهمّ وهو أن نعرف كيف ننظر إلى الرغبة بالحصول على المغفرة الحاضرة في قلب التائب. هذه الرغبة هي ثمرة النعمة وعملها في حياة الأشخاص وهي تسمح للمرء بالشعور بالشوق والحنين لله ومحبّته وبيته. لا ننسيَّنَ أبدًا أن هذه الرغبة هي بداية الارتداد.
إذ يتوجّه القلب إلى الله معترفًا بالشرّ الذي قام به وإنما مع الرّجاء بالحصول على المغفرة. هذه الرغبة تتعزّز عندما يُقرِّر المرء في قلبه أن يغيّر حياته وألا يعود إلى الخطيئة. إنها اللحظة التي نَكِل فيها أنفسنا لرحمة الله واثقين بالكامل بأنه يفهمنا ويغفر لنا ويعضدنا. لنفسح مكانًا لهذه الرغبة بالله وبمغفرته؛ لنجعلها تظهر كتعبير حقيقيّ لنعمة الروح القدس التي تحثُّ على توبة القلب.
أرغب أيضًا بأن أذكّر بمكوِّن لا نتحدّث عنه كثيرًا ولكنّه قاطع وحازم: وهو الخجل. ليس من السهل علينا أن نضع أنفسنا أمام إنسان، بالرغم من معرفتنا بأنه يمثل الله، ونعترف بخطايانا، لأن المرء يشعر بالخجل إن كان بسبب ما فعله وإما لواجب الإعتراف به لشخص آخر.
الخجل هو شعور حميم يؤثِّر على الحياة الشخصيّة ويتطلَّب من المُعرِّف موقف احترام وتشجيع. منذ الصفحات الأولى يحدثنا الكتاب المقدّس عن الخجل بعد خطيئة آدم وحواء، يكتب الكاتب المُلهم: "فانفتحت أعيُنُهما فعرفا أنهما عريانان؛ فخاطا من ورق التين وصنعا لهما منه مآزر" (تكوين 3، 7). إن أول ردّة فعل لهذا الخجل هي الاختباء من وجه الله ( تكوين 3، 8- 10).
يجعلني هذا النص أتوقّف عند أهميّة دورنا في الإعتراف. نجد أمامنا شخصًا "عريانًا" لا يعرف ماذا يقول، مع ضعفه ومحدوديّته وخجله بأنّه شخص خاطئ. لا ننسينَّ أبدًا أن من يقف أمامنا ليست الخطيئة وإنما الخاطئ التائب، شخص يشعر بالرغبة بأن يُقبل ويُغفر له. خاطئ يَعِد بعدم الابتعاد مجدّدًا عن بيت الآب، وبأنّه وبقواه القليلة التي يستعيدها، يريد أن يقوم بكل ما بقدرته ليعيش كابن لله.
لذلك نحن مدعوون لكي لا ندين كما ولو كنّا نملك مناعة ضدّ الخطيئة، وإنما لنتصرّف كسام ويافث، ابني نوح، اللذين أخذا غطاء ليحفظا أباهما من الخجل. أن يكون المرء معرِّفًا بحسب قلب المسيح يوازي تغطية الخاطئ بغطاء الرحمة لكي لا يشعر بالخجل بعد الآن ويتمكّن من استعادة فرح كرامته البنوية.
لذلك لا يمكننا أن نعيد الخروف الضال إلى الحظيرة بواسطة عصا الإدانة وإنما من خلال قداسة الحياة مبدأ التجدد والإصلاح في الكنيسة. إن القداسة تتغذّى من الحب وتعرف كيف تحمل على عاتقها ثقل الأشدّ ضعفًا.
إن مرسل الرحمة يحمل الخاطئ على كتفيه ويعزّيه بقوّة الرأفة. والخاطئ الذي يذهب للاعتراف يريد أن يجد أبًا. بالتأكيد قد سمعتم، كما سمعت أنا أيضًا العديد من الأشخاص الذين يقولون: "لا أتقدّم أبدًا من الإعتراف لأنني ذهبت للإعتراف في أحدى المرات وكان الكاهن قاسيًّا ووبّخني"؛ أقول لكم: "هذا ليس الراعي الصالح وإنما الديّان الذي يعتقد أنه بريء من الخطيئة.
لذلك أحب أن أقول للمعرِّفين: "إن كنت لا تشعر بأنه بإمكانك أن تكون أبًا فمن الأفضل لك ألا تذهب إلى كرسي الاعتراف وأن تقوم بعمل آخر، لأنك ستتسبِّب بألم كبير لنفس لم يتمُّ استقبالها بقلب أب وقلب الأم الكنيسة".
أرافقكم في هذه المغامرة الإرساليّة مقدِّمًا لكم مثال قدّيسَين خادمين لمغفرة الله القديس ليوبولدو والقديس بيو بالإضافة إلى العديد من الكهنة الآخرين الذين شهدوا بحياتهم لرحمة الله وهم سيساعدونكم. وعندما تشعرون بثقل الخطايا التي اعترف بها الأشخاص لكم وبمحدوديّة شخصيّتكم وكلماتكم ثقوا بقوة الرحمة التي تذهب للقاء الجميع كمحبّة لا تعرف الحدود؛ وقولوا كالعديد من المعرِّفين القدّيسين: "أنا أغفر الخطايا يا رب، وأنت ضعها على حسابي!"
لتعضدكم أمُّ الرحمة وتحفظكم في هذه الخدمة الثمينة، ولترافقكم بركتي ولا تنسوا أبدًا من أن تصلّوا من أجلي!
موقع الكرسي الرسولي.