"يا يوسف، قمْ، خذ الصّبي وأمَّه، واهربْ إلى مصر،
لأنّ هيرودس سيبحثُ عن الصبي ليقتلَه" (متى2: 13)
1. عندما أقبل المجوس من المشرق، وعلم منهم هيرودس الملك بمولد "ملك اليهود"، اضطرب هو وكلّ أورشليم وقرّر قتله. ولمّا لم يرجع إليه المجوس ليخبروه عن مكان وجوده بوحي إلهي، أمر عندئذٍ بقتل جميع أطفال بيت لحم من ابن سنتين فما دون. "فظهر ملاك الربّ ليوسف في الحلم وقال له: "قم، خذ الصبي وأمّه، واهرب إلى مصر...لأنّ هيرودس سيبحث عن الطفل ليقتله" (متى 2: 13). وللحال فعل يوسف كذلك، وأنقذ الطفل يسوع، وهو المؤتمن كمعاونٍ مسؤول عن سرّ العناية الإلهيّة وتصميم الله الخلاصي. وهكذا تجلّت فيه الأبوّة المسؤولة بكلّ أبعادها.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا اليوم بعيد العائلة على الصعيد الوطني، هنا في كاتدرائيّة مار اسطفان بمدينة البترون، بدعوة من سيادة أخينا المطران منير خيرالله راعي الأبرشيّة، ورئيس اللّجنة الأسقفيّة للعائلة والحياة، المنبثقة من مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وموضوع العيد: "الحبّ في العائلة شهادة فرح ورجاء". فإنّنا نحيّيه بالشكر والتقدير وكلّ أعضاء اللّجنة الأسقفيّة، ولجنة العائلة في الأبرشيّة، وجميع الذين عملوا ونظّموا وضحّوا في إعداد العيد، وكلّ العائلات المشارِكة، سائلين الله، بشفاعة "العائلة المقدّسة" أن يباركهم وعائلاتهم بفيض من نعمه، ويشمل عائلتنا الوطنية اللبنانية التي يرأسها فخامة رئيس الجمهورية وهو صاحب العيد. اننا نحملكم صاحب المعالي تحياتنا وصلاتنا اليه كرئيس للبلاد وأب للعائلة اللبنانية.
ونصلّي من أجل العائلة البشرية جمعاء ومن اجل الأزواج، كي يصونوا هبة الحبّ في حياتهم، ويربّوا، بمَثَلهم وسهرهم، أولادهم على الحبّ الحقيقي النقي الذي يصون العائلة كمدرسة طبيعيّة للتربية عليه. على هذا الحبّ وحمايته ممّا يتهدّده من أخطار.
3. وفيما نحتفل بعيد العائلة، لا يغيب عن بالنا واقع العائلات التي تبكي عزيزًا فقدته بموت طبيعي أو بحادثة مؤلمة أو بممارسة عنف أو باعتداء إرهابي. هذه كلّها نعلن قربنا الروحي والإنساني منها، ولاسيّما العائلات القبطية العزيزة التي سقط لها 28 ضحية باعتداء إرهابي في المنيا بمصر، فيما كانوا متوجّهين أوّل من أمس الجمعة في مسيرة تقوية إلى أحد الأديار.
إلى متى يستمرّ اضطهاد المسيحيّين في مصر، وهم يُصطادون كالعصافير إما في الكنائس وإما في تجمّعات للصلاة؟ انهم شهود وشهداء الايمان. إنّنا نقدّم باسمكم تعازينا الحارّة لهذه العائلات ولقداسة البابا تواضروس والكنيسة القبطيّة الشقيقة، راجين لشهداء الإيمان الراحة الأبدية في السماء، ولهم العزاء. ولا يغيب عن صلاتنا جرحى الجيش اللبناني الذين سقطوا في منطقة عرسال، فيما نعرب عن تعازينا لعائلات ضحايا التفجير الإرهابي الذي وقع في أوّل الأسبوع في مدينة Mancester
4. لقد انتدب الله القدّيس يوسف ليقوم مباشرة بخدمة يسوع، شخصًا ورسالة، بممارسة أبوّته. وبذلك شارك في سرّ الفداء العظيم، وعُدَّ حقًّا خادمًا للخلاص. في الواقع، جعلَ من حياته خدمة وتضحية لسرّ التجسّد ورسالة الفداء، ووهبَ كلّ ذاته وحياته وعمله للعائلة المقدّسة، وللمسيح المولود في بيته.
إنّه المرآة التي يجد فيها كلّ أب وأمّ وجهه. فالأولاد هم عطيّة من الله، كثمرة حبّهم، ولكلّ واحد من أبنائهم وبناتهم دورٌ خاصّ في تاريخ الله الخلاصي. فينبغي على الوالدين مساعدتهم على اكتشاف هذا الدّور الشخصي والقيام به، وعلى الإصغاء الدّائم لصوت الله. إنّ الحبّ الصافي المنفتح على الله، الذي يتربّى عليه الأولاد في عائلتهم، هو الأساس لسماع نداء الله بشأن هذا الدور.
5. في إرشاده الرّسولي "فرح الحبّ"، دعا قداسة البابا فرنسيس إلى التربية على الحبّ في العائلة، بالإستناد إلى نشيد القدّيس بولس الرسول الذي سمعناه. أودّ التوقّف على ميزتَين من هذا الحبّ، تميّزت بهما العائلة المقدّسة، وهما: "الحبّ يرجو كلّ شيء، ويحتمل كلّ شيء" (1كور13: 7).
أ - الحبّ يرجو كلّ شيء، فلا ييأس من المستقبل، لأنّه يتكّل على الله وعلى تدبيره، ذاكرًا القول المأثور: "إنّ الله يكتب بخطٍّ مستقيم على سطورٍ ملتوية". هذا الحبّ ينظر إلى الحياة الأبديّة الآتية، حيث كلّ مظاهر الضّعف تتبدّل بقيامة المسيح، وتتلاشى بكلّ ظلماتها وحالاتها المرضيّة، ويتلألأ كلّ جمال الشّخص وجودته.
ب - الحبّ يحتمل كلّ شيء، في كلّ معاكساته، بروح إيجابي. فيبقى صامدًا في محيطٍ معادٍ، وبوجه كلّ ما يدعو إلى الحقد والبغض والمبادلة بالإساءة. وخياره البطولي صنعُ الخير الذي لا يستطيع أحد هدمه.
الحبّ قوّة، والشخص القوي هو الذي يكسر مسلسل البغض والشرّ. في الحياة العائليّة، ينبغي تنمية هذا الحبّ القوي الذي بوسعه مكافحة الشرّ مهما تتهدّده. فالحبّ لا يسمح بأن يسيطر عليه الحقد، واحتقار الآخرين والرغبة في فعل الشرّ والثّأر (راجع "فرح الحب"، الفقرات 116-119).
6. نداء الله إلى يوسف ليهرب بالطفل يسوع إلى مصر، موجَّه إلى كلّ أب وأمّ ليحموا أولادهم من الأوبئة والمخاطر التي تتهدّد حياتهم الروحيّة والأخلاقيّة، وقدسيّة الحبّ والمشاعر الإنسانيّة، وهي متفشّية في المجتمع عبر ممارسات هدّامة، وفي وسائل التواصل الاجتماعي وتقنياتها.
من واجب الأهل، بحكم الأبوّة والأمومة، السَّهر على أولادهم، وعلى طريقة حياتهم، وعلى معاشراتهم، وعلى ممارسة واجباتهم الدينيّة والمشاركة في ليتورجيا الأحد وحياة الرعيّة ورسالتها، من أجل بناء مجتمع أفضل وبيئة اجتماعيّة أسلم، يقومان على القيم العليا.
7. في العائلة الوطنية الأكبر، نداء الله ليوسف موجَّهٌ أيضًا إلى المسؤولين السياسيِّين عندنا المؤتمنين على خير الشعب، وهو الذي ائتمنهم على هذه المسؤولية بحكم الدستور، إذ نقرأ في مقدّمته "أنّ الشعب هو مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية" (المقدّمة، د).
إنّ واجب السلطة السياسية الأساسي هو تأمينُ خير الشعب كلّه، والسّهرُ على كفاية معيشته وراحته، وحمايتُه من الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، في دولة تحترم العدالة والقانون. لكن هذه السلطة أوصلتنا اليوم، ربّما عمدًا، وهذا أخطر وأدهى، إلى شفير هاويتَين: التمديد للمجلس النيابي، غير المرتبط بأيّ قانون تجري الانتخابات بموجبه، إذ يطيح بالدستور وبحقّ الشعب اللبناني، والفراغ في السلطة التشريعيّة الذي يُدخل البلاد في المجهول. هاتان الهاويتان هما نتيجة الارتهان للمكاسب الخاصّة والعبث بمصير الدولة وكيانها وشعبها. لقد تمادت الجماعة السياسيّة عندنا فوق المقبول في عدم الاتّفاق على قانون للانتخاب يكون لصالح الشعب والبلاد، لا لصالح حسابات أفراد أو فئات. لقد سئم الشعب اللبناني استغلال السلطة وممارسة السياسة لمآرب ومكاسب وصفقات خاصّة. ولكن، تبقى لنا نافذة أمل في اصحاب الإرادات الحسنة الساعين حاليًّا وجدّيًّا إلى سنّ القانون الجديد المنشود وتجنيب البلاد هذين الخطرين.
٨. في عيد العائلة، نصلّي أيضًا من أجل عائلتنا الوطنيّة الكبيرة، سائلين الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيّدة لبنان، أن يحميَها من المخاطر المحدقة بها، ويرسل إليها رجال سياسة وقادة ممتلئين من المحبة ومخافة الله. كما نصلّي من أجل العائلة البشرية جمعاء راجين أن يحلّ فيها السلام، وتتوقّف الحروب، وتنتهي مآسي الشعوب. فالله سميع مجيب.
وإنّنا نرفع مع كلّ عائلة مسيحيّة مصلِّية نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي.