" كلّ ما صنعتموه إلى أحد إخوتي هؤلاء الصّغار، فإليَّ صنعتموه " (متى 25: 40)
1. هذا الكلام الإلهي سقطَ في قلب القدِّيسة الأمّ تريزا دي كلكوتا، التي نكرِّمها اليوم، إذ نحتفل بقداس الشّكر لله على أنّه أظهرَ عظائمه فيها، وقد أعلنها البابا فرنسيس قدّيسة، وكتبها في سجلّ القدّيسين، راسمًا أن تُكرَّمَ في الكنيسة الجامعة في مصافِّهم، وذلك الأحد 4 أيلول الجاري في بازيليك القدّيس بطرس الرسول في روما.
ويُسعدنا أن يتمّ هذا الإحتفال مع بناتها راهبات مرسلات المحبّة هنا في بشرّي التي تستضيفهُنَّ في بيت المرحومين انطوان وانطوانيت كيروز وكان معدًا ليكون بيت وحيدهما المرحوم فخر، فسمي البيت "بيت الفرح". انني احيّي شقيقهما المونسينيور فيكتور كيروز الذي رافقهما في مرارة فقدان وحيدهما وتوصّل معهما الى جعله بيتًا لخدمة المحبة للفقراء والمرضى والمعوزين.
وكتب الى الام تريزا فقبلت الطلب مشكورة. وها راهباتها يقُمنَ بأعمال المحبّة في بشري وفي البلدات المجاورة. فباسمكم جميعًا نُهنِّئ أخواتنا الراهبات وجمعيّتَهن، رئيسةً عامّة ومجلسًا عامًّا، ورئيسةً إقليميّة، وجميع راهبات مرسلات المحبة اللّواتي يشهدْن لمحبّة المسيح في لبنان وهذا الشَّرق، حاضنات "الأفقر بين الفقراء"، وفقًا للقاعدة التي رسمتْها القدّيسة الأمّ تريزا وهي: "أنّ اللهَ هكذا أحبَّ العالم حتّى أنّه بذلَ ابنه الوحيد، وما زالَ يُحبّ العالم ويُرسلك ويُرسلني لنكون حبَّه وتحنّنه على الفقراء".
2. النّصُّ الإنجيلي الذي سمعناه عاشته القدّيسة الأمّ تريزا، ووجدتْ فيه الدّعوة التي سمعتها في داخلها من الربّ يسوع في 10 أيلول 1946، وهي "التّخلّي عن كلِّ شيء وخدمة المسيح في الأكثر فقرًا بين الفقراء"، خدمةً تروي عطشه اللّامتناهي للمحبّة ولخلاص النّفوس. فراحتْ تخدمُ المسيح في الجائع والعطشان والعُريان والغريب والمريض والسّجين، أيًّا كان دينه ولونه وعرقه. فقدّمتْ لكلّ واحد وواحدة منهم، على ما كانت تقول، "يدًا ناعمة حاضرة للخدمة، وقلبًا كريمًا حاضرًا للحبّ".
3. فأسّستْ لهذه الغاية في 7 تشرين الاوّل 1950 جمعيّة مرسلات المحبّة، وفي سنة 1963 فرع الأخوة مُرسلي المحبّة، وتباعًا في سنة 1976 فرع الأخوات التّأمّليّات، وفي سنة 1979 فرع الأخوة التّأمّليّين، وفي سنة 1984 فرع الآباء مُرسَلي المحبّة. وبتاريخ وفاتها في 5 أيلول 1997 أي منذ عشرين سنة كان عددُ أعضاء جمعيّتِها 3842 راهبة فاعلة في 594 مركزًا، و120 دولة. أعتقد أنّ هذه الأعداد قد تضاعفتْ، فثمارُ المحبّة تتكاثر من دون قياس. فالأمّ تريزا كانت تُردّد: "ليس المهمّ كم نُعطي للآخرين، بل المهمّ أن نُعطي الحبّ. كلّ عمل بسيط نعمله بمحبّة الله يكونُ عظيمًا. وحيثما يكونُ الحبّ، هناك يكونُ الله".
4. في ضوء إنجيلِ اليوم، ميّزتْ الأمّ تريزا بين المحبّة الشّاملة للجميع وكأنّها من دون تحديد، وبين محبّة كلّ إنسان بمفرده. فكانت تقول: "إذا فكّرت بالنّاس جميعًا كجماعات فقط، فهذا ليس حبًّا كما يُريده المسيح. إنّ الشّخص الفرد هو المعني بالحبّ الحقيقي. إنّي أؤمن بالحبّ وجهًا لوجه: لهذا الجائع، لهذا العطشان، لهذا العُريان، لهذا الغريب، لهذا المريض، لهذا السّجين".
وأسفتْ لعدم اكتراث بعض النّاس بأمثال هؤلاء المحتاجين الذين سمّاهم يسوع "إخوته الصغار". ذلك أنّهم فقدوا الإيمان والوعي. ولو فهموا قيمة هذا الإنسان المتألِّم لكانوا تصرّفوا بوعي، وعرفوا أنّ الله يسكن فيه. وحينئذٍ يبدأون بمساعدته وبخدمته كما خدمهم المسيح نفسه".
5. يقول قداسة البابا فرنسيس أنّ الأمّ تريزا استمدّتْ قوّة رسالة الحبّ من ثلاثة: أولًا من الصلاة أمام القربان، بالقدّاس اليومي عند الصباح والسّجود ليسوع في السرّ المقدّس عند المساء. وهكذا حوّلتْ كلّ عملها صلاة؛ وثانيًا من المحبّة التي تملأ قلبها وتستقيها من يُنبوع الحبّ، يسوع المصلوب والقائم من الموت، الحاضر في سرّ القربان.
هذه المحبّة جعلتها قريبة من كلّ إنسان فقير ومتألّم وجدته على طريقها أو بحثتْ عنه حيث هو على هامش المجتمع؛ وثالثًا من الرحمة الفاعلة في أعمال تُعنى بالجسد التي يُعدّدها إنجيل متى (الفصل 25)، وأعمالٍ تُعنى بالنفس والروح والمعنويّات (راجع براءة إفتتاح يوبيل سنة الرّحمة للبابا فرنسيس). الرحمة الفاعلة تعني الإهتمام بكلّ الإنسان وبكلّ إنسان (راجع مقدّمة البابا فرنسيس لكتاب "مجموعة أقوال وكتابات للأمّ تريزا"، في الأرسرفاتوري رومانو الأسبوعيّة بالفرنسيّة، عدد 35، الخميس أوّل أيلول 2016.
6. ماذا تقول لنا القدّيسة الأمّ تريزا، في يوم تكريمها؟ تقول أنّ العالم بحاجة إلى حبّ، بل عطشان إلى الحبّ. فيجب على كلّ واحد وواحدة منّا أن يحمل إليه هذا الحبّ الذي هو الله. فالله محبّة (1يو4: 8). وحيثما يكون الله، هناك يكون الحبّ. إنّها تدعونا لننشر ثقافة الحبّ بدل البُغض، والسخاء في العطاء بدل الأنانيّة، والمصالحة بدل النزاع، والمغفرة بدل الإساءة.
وتقول لنا: إنّ للعائلة دورًا أساسيًّا في التّربية على الحبّ الحقيقي: فالقدّيسة الأمّ تريزا تُشير إلى دور الأمّ الأساسي في هذه التربية، فالأمّ هي قلب البيت، وهي التي تُعطي الشَّكل للعائلة، فيما تُحبّ وتعتني بأولادها. هي التي تجعل من البيت عشَّ حبّ." في الواقع من الوالدَين يتعلّم الأولاد البسمة والغفران وقبول الآخر والتضحية بعضهم عن بعض، والصّلاة معًا، والعطاء من دون مقابل، والمساعدة المتبادلة.
7. من شخصيّة القديسة الأمّ تريزا، ندرك أنّ الإصلاح في المجتمع والدّولة إنّما يأتي على يد أشخاصٍ إداريّين وسياسيّين يسكنُ الحبّ في قلبهم، أيّ الله. عندئذٍ تأتي الحلول لكلّ الأزمات التي تتخبّط فيها، على ما يقول القدّيس أغوسطينوس: "ضعِ الحبَّ في قلبك، وافعلْ ما تشاء". هذا ما فعلتهُ القدّيسة الأمّ تريزا دي كلكوتا كما فعلَ غيرُها من الذين عاشوا المحبّة الإجتماعيّة مثل الطّوباوي الأب يعقوب حدّاد الكبّوشي، مؤسِّس راهبات الصليب ومستشفى دير الصليب في جلّ الدّيب وسواه من المؤسّسات الإجتماعيّة، وآخرون من الذين أصلحوا أوطانًا وقد مارسوا السياسة فنًّا شريفًا في خدمة الخير العام، وفي كل القطاعات التي تؤدّي اليه.
8. إنّنا بروح القدّيسة الأمّ تريزا نقولُ للسياسيّين عندنا، كتلاً نيابيّة وأحزابًا سياسيّة، أعضاءً في البرلمان والحكومة: ضعوا المحبّة في قلوبكم، بل ضعوا الله في قلوبكم، واخرجوا من أنانيّاتكم، ومصالحكم الخاصّة والفئويّة، ومن أَسْرِ مواقفكم وارتباطاتكم وارتهاناتكم، وأَنقِذوا الوطن بانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة من أجل إحياء البرلمان والحكومة، فيمكن آنذاك إصلاح ما يجب إصلاحه، من قانون انتخاب عادلٍ، والمشاركة المتوازنة في السّلطات العامّة، والسَّيْر بموجب الدّستور والميثاق الوطني وصيغته التطبيقيّة.
هذا ليس بمجرّد تمنٍّ، بل هو نداء إلى ضمير المسؤولين السياسيِّين لنقول لهم: أنتم، من خلال هذا النوع من الممارسة السياسيّة التعطيليّة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، إنّما تمعنون في هدم الدولة كيانًا ومؤسّسات، وفي تعطيل الحياة الاقتصاديّة والتجاريّة والصناعيّة والسياحيّة في لبنان، وبالتالي ترمون شعبه في حالة فقر وهجرة وفقدان ثقة. إنّنا ندعوكم لتصغوا إلى صوت الهيئات الاقتصاديّة لكي تدركوا حجم الضرر الذي تسبِّبونه بممارستكم لمثل هذه السياسة الهدّامة.
ونتطلّع في الوقت عينه إلى أصحاب الإرادات الحسنة في المجتمع المدني ليُعلوا الصوت، ويعبِّروا عن قلقهم وولائهم لهذا الوطن الذي يحتاج إلى مسؤولين مخلصين، يعملون إيجابيًّا وبشكلٍ بنّاء من أجل حمايته وإعادته إلى مكانه ومكانته وسط الاسرة الدولية.
9. ونحن، أيّها الأحبّاء، فلنرفعْ أفكارَنا وعقولنا وقلوبنا إلى العلى، حيثُ تنعمُ القدّيسة الأمّ تريزا في مجد السماء بالمشاهدة السّعيدة، طالبين شفاعتها لكي نكون مثلها شهودًا لمحبّة المسيح، ومعها ومع جميع القدّيسين نرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدّوس، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي.