ترأس قداسة البابا فرنسيس صباح يوم الخميس في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان قداس تبريك الزيوت المقدسة في يوم خميس الأسرار بمشاركة عدد كبير من الإكليريكيين والكهنة والأساقفة والكرادلة، وقد تخللت الذبيحة الإلهية عظة للأب الأقدس استهلها بالقول
خلال قراءتي للنصوص التي تقدّمها لنا الليتورجيّة اليوم جاء إلى ذهني مقطع تثنية الإشتراع القائل: "لأنه أي شعب هو عظيم له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا في كل ادعيتنا إليه؟" قرب الله... وقربنا الرسولي.
نتأمّل في نصِّ أشعيا مرسل الله "الذي مُسح وأُرسِل" وسط شعبه ليكون قريبًا من الفقراء والمرضى والمساجين... والروح القدس "عليه" يدفعه ويرافقه عبر المسيرة... وفي المزمور الثامن والثمانين نرى كيف أنَّ رفقة الرب قد قادت الملك داود منذ صباه وأمسكت بيده، والآن إذ شاخ تأخذ اسم الأمانة. أما سفر الرؤيا فيقرِّبنا من الرب الذي "يأتي" على الدوام؛ والإشارة إلى أن "ستَراه كُلُّ عَينٍ حَتَّى الَّذينَ طَعَنوه" تجعلنا نشعر أن جراح الرب القائم من الموت هي مرئيّة على الدوام وأن الرب يأتي دائمًا للقائنا إن أردنا أن نقترب من جسد الذين يتألّمون ولاسيما الأطفال.
أما في الصورة الأساسيّة التي يقدّمها لنا الإنجيل اليوم فنتأمّل الرب من خلال عيون أهل وطنه التي كانت "شاخصة إليه". قام يسوع ليقرأ في مجمع الناصرة، فدُفِع إليه بسفر النبي أشعيا، ففتح السفر فوجد المكان المكتوب فيه: "روح الربِّ علي... لأنّه مسحني وأرسلني..." وختم مُثبِّتًا القرب المُستفِزَّ لتلك الكلمات: "اليوم تمّت هذه الآية بمسمع منكم". لقد وجد يسوع المقطع وقرأ بجدارة علماء الشريعة؛ كان بإمكانه أن يكون عالمًا للشريعة ولكنّه أراد أن يكون "مُبشِّرًا" وواعظًا على الدرب، رسول البشرى السارة لشعبه. هذا هو خيار الله العظيم: لقد اختار الرب أن يكون قريبًا من شعبه.
إنَّ القرب هو أكثر من فضيلة مميّزة، إنّه موقف يشمل الشخص بكامله وأسلوبه في إقامة العلاقات وتنبُّهه للآخر. عندما يقول الناس عن كاهن أنّه قريب منهم هم يسلِّطون الضوء عادة على أمرين: الأول أنّه حاضر على الدوام، والثاني هو أنّه يعرف كيف يتكلّم مع الجميع: مع الكبار والصغار، مع الفقراء ومع غير المؤمنين... إنّ فيليبُّس قد تعلّم جيّدًا من يسوع كيف يكون مبشِّرًا على الدرب، ويخبرنا كتاب أعمال الرسل أنّه كان يسير من مكان إلى آخر مبشِّرًا بكلمة الله وكان يعظ في كلِّ المدن فيعمُّ فيها فرح عظيم (راجع أعمال ۸، ٤- ۸).
إنَّ القرب، هو مفتاح البشارة لأنّه موقف أساسي في الإنجيل. نحن نعلم أنَّ القرب هو أساس الرحمة، لأن الرحمة لا يمكنها أن تكون كذلك ما لم تلتزم كالـ "سامري الصالح" لتزيل المسافات. لكن أعتقد أنّه علينا أن نعرف بشكل أفضل واقع أنَّ القرب هو أيضًا مفتاح الحقيقة، إذ يمكننا من خلال الحقيقة أن نلغي المسافات أيضًا، وليس هذا وحسب لأنّ الحقيقة هي أيضًا أمانة، تلك التي تسمح لك بتسمية الأشخاص بأسمائهم، تمامًا كما يفعل الرب بدلاً من تصنيفهم وتحديد حالتهم ووضعهم.
وبالتالي علينا أن نتنبّه من تجربة أن نجعل لنا أصنامًا من بعض الحقائق المجرّدة، لأنَّ "الحقيقة- الصنم" تُخفي ذاتها وتستعمل الكلمات الإنجيليّة كغطاء ولكنّها لا تسمح بأن تلمس القلب، والأسوأ هو أنّها تُبعد الأشخاص عن القرب الشافي لكلمة الله وأسرار يسوع.
لذلك علينا أن نتوجّه إلى مريم أمّ الكهنة، ويمكننا أن ندعوها أيضًا "سيّدة القرب": لأنها "كأمٍّ حقيقيّة تسير معنا وتحارب معنا وتنشر على الدوام قرب محبة الله" (فرح الإنجيل، ۲۸٦) فلا يشعر أحد بأنّه مُبعد أو مُستقصى. إنَّ أمنا ليست قريبة لأنّها تخدم بواسطة هذه العناية وإنما أيضًا بسبب أسلوبها في قول الأمور. فسرعتها ونبرة صوتها في قانا عندما قالت للخدم: "إفعلوا كلَّ ما يأمركم به" قد جعلت من كلماتها هذه النموذج الوالدي لكل أسلوب كنسي؛ لأنّه بواسطة هذا القرب فقط يمكننا أن نميِّز ما هو الخمر الذي ينقص وما هو الخمر الأفضل الذي يريد الرب أن يعطيه.
أقترح عليكم أن تتأمّلوا ثلاثة مجالات من القرب الكهنوتي التي ينبغي أن يتردّد فيها صدى هذه الكلمات: "إفعلوا كلّ ما يقوله يسوع لكم" في قلوب الأشخاص الذين نتكلّم معهم: مجال المرافقة الروحيّة، مجال الاعتراف ومجال الوعظ.
أولاً القرب في الحوار الروحي ويمكننا أن نتأمّل به في لقاء الرب مع السامريّة. لقد علّمها الرب أولاً كيف تعبد بالروح والحق ومن ثمّ وبعناية يساعدها لكي تعطي اسمًا لخطيئتها؛ وفي النهاية يسمح لروحها الإرسالي بأن يُعديه ويذهب معها ليبشِّر في قريتها.
ثانيًا القرب في الاعتراف ويمكننا أن نتأمّل به في رواية المرأة الزانية؛ هناك نرى بوضوح كيف يكون القرب حازمًا لأن حقائق يسوع تُقرِّب على الدوام وتُقال بين شخصين. إنّ النظر في عينيِّ الآخر - على مثال الرب عندما وقف بعد أن كان قد انحنى بقرب الزانية التي كانوا يريدون رجمها وقال لها: "وأنا لا أحكم عليكِ" - ليس تصرفًا ضدّ القانون. ويمكن أن نضيف: "لا تعُد إلى الخطيئة" لا بنبرة من عليه أن يُحدِّد شروط الرحمة الإلهيّة، وإنما بنبرة من يسمح للخاطئ بأن ينظر إلى الأمام.
وأخيرًا مجال الوعظ، نتأمّل حوله مفكِّرين بالبعيدين ومصغيين إلى أوّل عظة لبطرس والتي تندرج في إطار حدث العنصرة. يعلن بطرس أنّ الكلمة هي "لجميع الأباعد" (أعمال ٢، ٣٩) ويعظ بشكل جعل القلوب تتفطّر وجعلهم يسألون: "ماذا نعمل أيها الإخوة؟". العظة هي المعيار "لتقييم قرب الراعي من شعبه وقدرته على لقائه" (فرح الإنجيل، ١٣٥). في العظة يظهر مدى قربنا من الله في الصلاة ومدى قربنا من أناسنا في حياتهم اليوميّة.
إنّ البشرى السارة تتحقّق عندما يُغذّي هذان القربان بعضهما البعض ويعتنيان ببعضهما البعض. إن كنت تشعر أنّك بعيد عن الله اقترب من شعبه فسيشفيك من الإيديولوجيات التي جعلت حماسك يفتر، وسيعلِّمك الصغار أن تنظر إلى يسوع بشكل مختلف؛ إنّ شخص يسوع مذهل بنظرهم ومثاله الصالح يعطي سلطة أخلاقيّة وتعاليمه تفيد للحياة.
أما إن شعرتَ أنّك بعيد عن الناس اقترب من الرب وكلمته: في الإنجيل سيعلّمك يسوع كيف تنظر إلى الناس وقيمة كل شخص منهم في عينيه هم الذين من أجلهم سفك دمه على الصليب. إنّ الكاهن القريب والذي يسير وسط شعبه بقرب وحنان الراعي الصالح؛ لا يقدِّره الناس وحسب بل يشعرون بشيء خاص تجاهه، وهو ما نشعر به في حضور يسوع. لذلك فالاعتراف بقربنا ليس أمرًا إضافيًّا وحسب، بل نحن نعرف من خلاله إن كان يسوع سيحضر في حياة البشريّة أم أنّه سيبقى على مستوى الأفكار وحسب.
لنطلب من مريم "سيّدة القرب" أن تقرِّبنا من بعضنا البعض و أن توحّدنا في الصوت عندما نطلب من أناسنا أن "يفعلوا كلّ ما يقوله لهم يسوع" لكي يحضر قربها الوالدي في اختلافات آرائنا هي التي بالـ "نعم" التي قالتها قرّبتنا من يسوع إلى الأبد.
إذاعة الفاتيكان.