المعاناة ليست خيارًا للمسيحيّين، بل هي أمرٌ مضمون.
في اللّغة، كلمة "معاناة" تعني الألم أو الحزن الطويل الأمد، خسارة أو ضرر مستمرّين، أن نكون عُرضة لإعاقة دائمة أو مرض، وفي نهاية المطاف الوصول إلى الموت. يأتينا الألم بجميع أشكاله، فالإزعاجات اليوميّة تحبطنا، وكذلك الفشل المتكّرر يُضعف من عزيمتنا، والدّيون التي لا نستطيع إيفائها تضغطنا، والعلاقات المتفكّكة تُجهِدنا، والكآبة تفتك بنا. والعنف يجرح أو يؤذي من نحبّ، وكذلك المرض يجتاحنا أو يأخذ واحدًا من أفراد عائلتنا. المعاناة بلاءٌ على جميع الأشخاص.
لم يعدنا المسيح بالمعاناة فقط؛ بل جعل تلك الصلبان الشخصيّة كمتطلبات يوميّة لتلاميذه: "وقالَ لِلنَّاسِ أَجمَعين: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفسهِ ويَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ ويَتبَعْني". (لوقا 9: 23). نُعلن رسمنا لإشارة الصَّليب على وجوهنا موافقتنا على هذا الشّرط للتلمذة.
وبذلك نحمل صليبنا ونقبل كلّ شكلٍ من أشكال المعاناة قد يعترض مسيرة حياتنا. وبها نقول إنّنا نُرحّب بالمعاناة ضمن شروط الله. وبأنّنا نُخضِع إرادتنا - التي لا تريد تحمّل الألم - إلى الله، تمامًا كما أخضع يسوع إرادته إلى أبيه عندما أَسلم نفسه على الصَّليب. وبهذا نرى أنّ اتّباع صليب المسيح له تبعاته الخطيرة.
يميل المسيحيّون لإراحة المتألّمين بذكر فوائد الألم والمعاناة. فنحن نقول: "المعاناة تبني الشَّخصيّة"، ولكن يجيبنا المتألّم: "لا أريد هذه الشخصيّة… بل أُريد المساعدة". وهنا يأتي السؤال الحتميّ: "لماذا يسمح الله بحدوث الأمور السيّئة؟" و"أين هو الله حين أتألّم؟".
رعاية الأهل لأطفالهم تقترح علينا إجابات لكِلا السؤالين. على سبيل المثال، لنفترض فتاةً في السّابعة من عمرها تتجوّل في رحلتها الأولى وهي تركب دراجتها الهوائيّة. يهرول والدها بجانبها، وفجأةً يرى بأنّها سترتطم بحجرة في الطريق. ولكنّه يقاوم رغبته الداخليّة بأن يصل للدراجة ليحافظ على توازنها. فالأب يرغب أن تتعلّم ابنته قيادة الدراجة بثقة، لذا لم يمنعها من الوقوع. عندما أصبحت الفتاة قبالة المطبّ، فزعت وسقطت على الرّصيف، وجرحت كوعها وركبتها. احتضنها الأب بين زراعيه ومنحها الشّعور بالرّاحة والأمان. ثمّ حملها إلى المنزل، نظّف جروحها وطبّبها، احتضنها وروى لها قصّتها المفضّلة.
إنّ الله هو مثل ذلك الأب. فهو يتيح لنا أن نكتشف طُرقنا، لكنّه يبقى دائمًا بجانبنا. هو لا يمنع الأمور السيّئة من الحدوث لأنّه يريدنا أن نتعلّم كيف نتعامل بثقةٍ مع المحن. ولكن عندما نعاني، يحتضننا الله ويبقى معنا. يشاركنا آلامنا، يمدّنا بدوافع الحياة، ويعزّينا.
هذه هي رسالة الصَّليب، فرسمها على أجسادنا تفتح آذاننا لنسمعها. إنّ ابن الله الوحيد صار بشرًا في المسيح، وبطبيعته الإنسانيّة، عانى الله الرّفض، والذلّ، والسّخرية، والهجر، واللطم، والجلد، والصّلب والموت. تحمّل معاناته كإنسان لذا فهو قادر على إراحتنا في معاناتنا.
عندما نرسم إشارة الصَّليب نحن ندعو الربّ ليشاركنا آلامنا. فنحن نلمس جبهتنا ومن ثمّ ننتقل إلى صدرنا، طالبين من الرَّبِّ بتلك الإشارة أن يحنو علينا. ثمّ ننقل يدنا بحركة أفقيّة بين الأكتاف نسأل فيها الله أن يدعمنا في معاناتنا. في العديد من المزامير، يتغنّى داوود بالاحتماء تحت ظلّ جناحيّ الرّب، والتي فسّرها آباء الكنيسة بطريقة نبويّة بأن نجد الأمان في ظلّ ذراعيّ المصلوب (مزمور 17: 8؛ 36: 7؛ 57: 1؛ 61: 4؛ 63: 7). ذراعيّ الربّ الممدودتان تَعِداننا بأنّهما يفهمان معاناتنا ويشاركاننا إيّاها.
كما تنبّأت المزامير كذلك سفر تثنية الاشتراع، فالصَّليب هو مكان اللّجوء. فقد جاء في رواية وداع موسى وكأنّه يصف ظلّ الصَّليب في الأفق، وهو يرنو إلى أرض الميعاد. مؤكّدًا لبني إسرائيل أنّ ذراعيّ الرّب ستحميهم في مضائقهم:
"مَلجَأُكَ الإِلهُ الأَزَلِيّ، ومِن تَحتِه الأَذرُعُ الأَبَدِيَّة. طَرَدَ العَدُوَّ مِن أَمامِكَ". (تثنية ٣٣: ٢٧).
بتنا نرى اليوم الصَّليب بشكلٍ واضح كإشارة لرحمة الله وتعزيته. فالله يمدّ لي يده ويمنحني النعمة والدّعم. عندما تصيبني المشاكل، أرسمُ إشارة الصَّليب، وأقول: "احضنّي يا ربّ بأذرعك الأبديّة، نجّني من التجارب، وأرحمني". لأنّه إله يتألّم معي، وينصرني، كما تألّم على الصَّليب وانتصر.
موقع jespro