عيد الميلاد قريب. لكن علينا أن ننتظره أيضاً. من المستحيل استعجال الزمن على مثال الطفل الذي يسحب جذع الوردة محاولاً دفعها لتنمو بسرعة. فالولادة لا يمكنها أن تتم إلاَّ بتواطئ الزمن، إنها تتطلب أياماً وأياماً لمجيئها. ومع ذلك، في هذا السهر الضروري، تطلب منا الكنيسة أن لا نبقى سلبيين.
إنها تأخذ كمثال مريم، كما تظهر لنا من خلال رواية البشارة (لو1 / 26- 38). في هذه الأيام من السهر، مطلوب منّا أن نوفق، في كل الأوقات، بين موقفين مهمين جداً للحياة الروحية.
الأول هو الانتظار بصبر والثاني هو القرار الحرّ.
الانتظار بصبر: الانتظار بصبر هو متطلب كان الناس في الماضي يعرفونه لكننا اليوم لا نعرف أن نُجلّه. فعلاقتنا مع الوقت مشوهة وبالنسبة لكثير من الناس، الحكم بالانتظار أمر لا يطاق ولا يحتمل. كل شيء يبدو في أيامنا يسعى لإلغاء الانتظار وتقريب المستحيل «كل شيء وكل شيء الآن»: الصور الفورية، بطاقات المصارف، الموزع المالي، البيع والشراء عبر الانترنت، الأخبار لحظة بلحظة. الخ.
ولكن ليست هذه طريقة الله. لقد اختار أن يجعلنا ننتظر خلال فترة التهيئة ليجعلنا نعتاد على اكتشاف ما هو خفي، وليحي مجدداً انتباهنا النائم عندما يكون الموضوع هو ادراك معنى أعمال الله في حياتنا وفي العالم الذي نسكنه. فالانتظار عليه أن يشكل ايقاعاً مع الانتباه والتيقظ.
زمن التهيئة موجود ليذكرنا بانتظار البشرية، منذ «حوالي أربعة ألاف سنة»، انتظار الكون المسكون والمزروع ببذرة الله المنتشرة في كل الثقافات، انتظار الرجال والنساء المدعوين للنمو على صعيد النضج والوعي والادراك. عندما بلغ الزمن أتى الله ليلتقي بأناس بالغين مسؤولين.
على هذه الأرضية، المطلوب هو الاصغاء لنبي معاصر، على مثال الأب تيار دي شاردان، راهب ومختص في العلوم الطبيعية، إنسان مدرك بأن الإنسان هو «سهم، علامة، إشارة التطور». موجود على تقاطع الإيمان والعلم، كان الأب تيار يلتهب بنار الله. برأيه، انتظار مخلص البشرية يتجاوز الإطار الحصري لإسرائيل. على جذع يسّى، سلف داود، تتكثف، في الواقع، كل خبرات الإنسانية التي تعيش مخاض الولادة الشاملة.
«كان لا بد من الأعمال المخيفة والانتظار المقلق لإسرائيل، وعطر المتصوفين الشرقيين المقطر ببطئ، وحكمة اليونان المصقولة مئة مرة لكي، على جذع يسى والبشرية تتفتح الوردة. كل هذه التحضيرات كان لها طابع كوني، بيولوجي، ضروريين لكي يضع المسيح رجله على المشهد الإنساني... والأب تيار يخلص إلى القول: «عندما ظهر المسيح بين ذراعي مريم، فقد أتى ورفع العالم»».
القرار الحر: فلكي يستطيع المسيح أن يأتي بين البشر، على جذع يسّى والبشرية، كان من الضروري التحضير له طويلاً. كان لا بد لوقت طويل لكي تنمو قامة البشرية وأخلاق البشر. ولكن المهم بشكل خاص وجود أحد ما قادر على استقبال الآتي من الله ليأخذ لباس إنسان من بين البشر. رواية البشارة تقول لنا الفرح الكبير لرؤية مريم وهي تقبل أن تكون هذا الإنسان الذي يستقبل الكلمة الذي صار جسداً.
غالباً في حياتنا، هكذا يكون الأمر. انتظار يستمر طويلاً، وفي ذات يوم لا بد من أخر قرار أساسي وفي وقت قصير ومكثف، كما في يوم البشارة هذا. في تمارينه الروحية، يعيد القديس اغناطيوس دي لويولا، بالمخيلة، بناء مشهد التجسد. من جهة، العالم في هيجان دائم لمخططات سوداوية وأعمال رائعة في الوقت نفسه، في وسط أناس أحيانا يسخرون، وأحيانا يبكون، وأحيانا مملوئين صحة أو على أبواب الموت.
من زاوية أخرى، في مكان مجهول، وبهدوء تام اختلت مريم بذاتها في بيتها في الناصرة. وتمت زيارتها من قبل الله. روح الله نزل عليها. لكن عظمة الله ليست قبل كل شيء القدرة والوقار، إنما قدرته المحيرة لنا، في أن يصبح «شبيها بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة». تقول مريم «نعم» لطلب الملاك. «نعم» قيلت بعد حوار: «كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلاً»؟
«نعم» لا علاقة لها بالانتصار على الصمت. وليست بوقفة استعداد «عسكرية» صامتة، «نعم» سريعة بسبب احترام يُلزِمُ بالصمت. إنما «نعم» حرة مقابل طلب هائل. امرأة متواضعة تجيب من عمق كيانها لدعوة هائلة من الله الذي ما من أمر يعجز عنه. هذه «النعم» ستغير حياتها كما يمكنها أن تغير حياتنا، إن عرفنا أن نسمع طلبات الله. لأن قول «النعم»، يعني القبول والأخذ على عاتقنا نتائج قرارنا.
هذا يعني القبول، يوماً بعد يوم، بانعكاسات هذا القرار. هذا القبول ليس بابتهاج للأنا بل استسلام للذات «ليكن لي بحسب قولك». فلنحافظ على مساحة مفتوحة لكي يستطيع الروح القدس أن ينمو في عمق كيان كل واحد وواحدة منّا.
بداية كل شيء يتم داخل مريم. وبالتالي ماذا تعني زيارة الملاك؟ إذا أدركت مريم أنها ستعيش مصيراً فريداً، أي أنها تعطي حياة إنسانية لابن الله، فهذه ليس بظاهرة نفسية بحتة: لقد تمت زيارتها، بالفعل، من قبل الله. ورواية البشارة مبنية بحسب منطق العهد:
* لكي يأتي إلى الإنسان، يحتاج الله إلى موافقة الإنسان. فالموضوع ليس مجرد إعلان إنما التماس. فمريم هي «كلمة نعم» البشرية التي تجيب على طلب الله.
* بطريقة لا تخضع لسلطتنا دائماً، لكن الرواية الإنجيلية تعطينا معناها، تدرك مريم، أو تعي لتغيير في حياتها تم اقتراحه عليها. لا شيء سيكون كالسابق. فمنظور الجديد، وخاصة عطاء الله لنا، يضعنا في اختبار. لذلك، ككل إنسان، على مريم أن تعبر من الخوف إلى الإيمان بالكلمة.
* مريم، كما قلت، تعيش مصير فريد، لكن علينا أن لا ننسى بأن كل خصوبة، كل ولادة، تأتي من الله. لدى ولادة قاين، تقول حواء: «قَدِ اقتَنَيتُ رَجُلاً مِن عِندِ الرَّبّ» (تك 4، 1). كل ولادة تمثل جهة عذرية، لكون الذكر، آنذاك، هو طريق الله. ومريم تضع ذلك الأمر موضع اليقين.
الأب رامي الياس اليسوعي.