كم هو شاسع الفرق بين رواية الميلاد في إنجيل لوقا وبين بداية إنجيل يوحنّا، نشيد الخلق والتجسّد، نشيد الألوهة التي صارت بشرًا. إنجيل لوقا هو إنجيل واقعنا اليوميّ، هو إنجيل الألوهة التي حلّت في مذود، هو إنجيل فقرنا: كيوسف ومريم نفتّش عن قلب يقبلنا، وعن يدين مفتوحتين تستقبلاننا، نفتّش دوماً عن إشباع رغبة قلبنا لحبٍّ لا يُمكن سوى لعظمةِ الألوهة أن تروي عطشه.
إنجيل الميلاد (لو 2 /1-20) لا يخبر قصّة يسوع فحسب، ففيه حاضرٌ تاريخ إنسانيّتنا:
أغسطس السّاعي الى إحصاء المعمورة، قيصر الّذي لم يكن لكبريائه حدود، يريد أن يحصي الشعوب التي أخضعها بحدّ السيف، أليس هو حاضر اليوم في عالمنا؟ قيصر، صورة قلبنا الرَّاغب في التسلّط، وفي الحلول مكان الله.
قيصر هو نحن، نريد أن نطرد الله من عالمنا، نريد أن نحصي المعمورة، كما لو كنّا نحن قد خلقناها. تعمينا رغبة السلطة والتملّك، لا نتوانى عن جرح أخينا الإنسان كلّ يوم، فقط لأنّنا نرغب بأن نكون أسمى منه، وأقوى منه، نرغب أن نكون له إلهاً.
كم من مريم ويوسف في عالمنا اليوم؟ كم من عائلة تجد نفسها وحيدةً إزاء عدم إهتمام الكون بها. كم من عائلاتٍ يقتلها عدم اكتراث المجتمع، عدم اكتراث كلّ واحد منّا. في كلّ إنسان يقرع بابنا يمكننا إن نرى عائلة الناصرة المُحتاجة إلى مكان يولد فيه المسيح، فهل نكترث نحن؟
هذا الإنجيل هو صورة إنسانيّتنا، إنسانيّة تسعى جاهدة للتفتيش عن بصيص رجاء بمستقبل مختلف، رغم ألم الحاضر، رغم الشرّ والأنانيّة، رغم تسلّط القوّي على الضعيف واعتناق منطق العنف، رغم الحروب المدمّرة التي تملأ أرضنا.
هذا الإنجيل هو نور يشعّ في ظلام حاضرنا. كلّنا اليوم، مهما كان لوننا وديننا وواقعنا، كلّنا نرغب في رؤية واقعنا يتبدّل. يسوع الّذي يولد اليوم، يولد ليضع في قلبنا لا الإطمئنان بل القلق من حاضر خاطئ والرّغبة الحارّة لأن نرى حياتنا تتبدّل.
ميلاد الرّب ليس فرحة عيد تعبر صباح العيد، ولا شجرة مزدانة، ولا هو يوم هرولة للتسوّق ولشراء الهدايا، ولا هو شعور جميل ولا هو عاطفة عابرة، ميلاد الرّب هو حقيقة مقلقلة، تقضّ مضجعنا كلّ يوم، هو صوت الحقّ في داخلنا لا يمكن لضجيج العالم أن يخفته أو يخنقه، هو صوت الضمير يقول لنا كلّ يوم: الرّب بعظمته صار مثلك ليجعلك شبيهًا به، فما بالك تقضي حياتك زاحفـًا في أوساخ هذا الوجود؟
يسوع الفقير وهو ربّ الجنود، الملفوف بأقمطة هو الّذي تعجز الكواكب عن احتوائه، يسوع المحتاج، وهو الّذي يرزق الخلائق طعامها، يسوع صار فقيرًا وفقره سوف يبقى وجع ضمير لكلّ من يرى في المادة خيره الأسمى وفي المال لذّة حياته، وفي الغنى راحة البال والضمير. فقر طفل بيت لحم سوف يبقى وصمة عار على مجتمع يدوس الفقير ولا يعير للمحتاج أذنًا، فقر ابن مريم سوف يبقى إلى الأبد علامة لقوّة الله، ولضعف إنسانيّتنا ولحاجتنا الى الله مصدرنا وغايتنا.
هناك، بعيدًا عن قصر أغسطس وبيلاطس وكيرينيوس وأرخلاّوس، في ليالي اليهودّية الباردة، كان الرّعاة ساهرين، يخشون فقدان واحد من الحملان. هناك، في صمت تلك الليّلة المنيرة، أبصر الرُّعاة الرَّاعي الحقيقيّ، وتعلّموا منه معنى الرِّعاية: هو الرَّاعي صار حملاً، ليُشارك رعيّته ألمها وخوفها، حزنها ويأسها، قلقها وانتظارها. وصار حملاً ليعلّم الرعيّة معنى الوفاء والإنتظار، معنى الثقة والرَّجاء.
لقد صار الرَّاعي حملاً، ليقول لنا أنّ علينا أن نكون نحن الرُّعاة، فكلّ إنسان هو مسؤوليّة حمّلنا إيّاها الله: كلّ فقير هو مسؤوليّتنا، كلّ محتاج، كلّ مهمّش وضعيف وخائف. لقد صار حملاً ليقول لنا أن علينا أن نفعل شيئـًا، لا بدّ أن نبادر إن كنّا نؤمن به راعيًا، وإن كنّا نريد أن نكون من خرافه.
هذا العيد هو عيد المُبادرة الصَالحة، هو عيد الخير الّذي ينتظر أن يتحقّق من خلال التزامنا بمنطق يسوع وبإنجيله. مهما كان عملنا متواضعًا، ومهما كانت مبادرتنا حقيرة، فهي قادرة على تبديل واقع عالمنا الكئيب. هذا العيد يقول لنا أنّه يمكننا أن نجعل عالمنا عالمًا أفضل، وأن نزرع الفرح في قلوب يئست من انتظار الخلاص.
ميلاد السيّد لا بدّ أن يكون ميلادَ كلّ واحد منّا وإلاّ فلا معنى لهذا العيد. لا بدّ أن يتكوّن في داخلنا جنين الإنسان الجديد، لا بدّ أن يبدأ الكائن المحرّر بالتصوّر في قلوبنا. عيد الميلاد هو إمكانيّة جديدة لبداية جديدة، نعلن من خلالها أنّ الكون يمكنه أن يكون أفضل، لأنّه مكانٌ حلّ فيه الله المتجسّد، ويحلّ فيه كلّ يوم من خلال التزامنا بمنطق التجسّد.
"وعلى الأرض السّلام"، إنّما أي سلام؟ ففي اللّحظة التي كان الملائكة يعلنون هذا السّلام، كان مئات الآلاف من الجنود الرّومان يستعدّون للقتال. واليوم، مثل البارحة، آلاف الحروب والمجازر والمذابح. عالم مقسّم، مملوء حقدًا وإرهابًا وعنفـًا. أي سلام هو هذا؟
هو سلام نصنعه ولا ننتظره، سلام افتتحه يسوع، أمير السّلام، بميلاده في أرض الجليل، في قلب كلّ منّا، وفي قلب كنيسته. هو سلام لا يصرخ، لا يحطّم، لا يملك سلاحًا سوى سلاح المحبّة، والمغفرة والمُصالحة. هو سلام نبنيه كلّ يوم في حياتنا، في عائلتنا، في عملنا، في مجتمعنا، في تربيتنا لأطفالنا على منطق جديد لا يقدّمه لهم العالم.
هو سلام لن نعلنه للعالم إن لم نحيه في قلبنا أوّلاً. هي مصالحة للكون مع الله لا يمكننا أن نلمسها إن لم نتصالح نحن مع الله أوّلاً، ومع أنفسنا. نقبل ضعفنا، ومحدوديّتنا، نعلم أنّنا خطأة، غير أوفياء دائمًا، وبالرغم من هذا، فإنّنا نعلم أن الله يحبّنا، تجسّد من أجلنا، يعمل من خلال ضعفنا، ويحبّنا رغم قلّة وفائنا. إختبار الحبّ هذا اسمه عيد الميلاد: لقد تجسّد الله من أجلي، تجسّد لأنّه يحبّني، تجسّد لا لأؤمن به فقط، بل لأنّه هو أيضاً يؤمن بي، وبقدرتي على مشاركته تحقيق الخلاص.
لقد عاشت مريم اختبار الإيمان هذا وانتصرت، لقد تدخّل الله في حياتها، آمن بها، وثق بإرادتها الصَّالحة، فحلّ في حشاها، وولدته للعالم في مذود بيت لحم. اختبار مريم هذا هو اختبار كلّ واحد منّا: ما عاشته مريم بالجسد، لا بدّ أن نحياه نحن بالرّوح. لا بدّ أن نسمع صوته يهمس في قلبنا قائلاً: "كُن شريكي في مشروع تبديل العالم"، فهل يكون لنا إيمان مريم؟ وهل نجد في داخلنا شجاعة صبيّة الناصرة؟ هل يمكن لحياتنا أن تكون علامة حضور للربّ في محيطنا؟ عندها فقط نحيا الميلاد بعمقه، حين تصبح حياتنا علامة دائمة لتجسّد الله في حياة الآخرين.
الأب بيار نجم ر.م.م.