"عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم" (لو 16: 29)

متفرقات

"عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم" (لو 16: 29)

 

 

 

"عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم" (لو 16: 29)

 

 

 

"عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم" (لو 16 :29)                                          

                                                   

تذكر الكنيسة اليوم وطيلة الأسبوع في صلاتها الموتى المؤمنين، ملتمسةً لهم الراحة السعيدة في السماء. هذا التذكار هو شركة روحيّة بين كنيسة الأرض المجاهدة على طريق الخلاص، وكنيسة المطهر المتألِّمة حيث موتانا يكفّرون عن خطاياهم، قبل أن ينعموا بمشاهدة وجه الله السّعيدة. من أجلهم نقدّم ذبائح القداس والصلوات وأعمال المحبّة والرحمة.

 

ونحن في طريقنا نحو الخلاص الأبدي ينبغي أن نستنير بكلام الله، وإلّا أضعْنا الطريق، وسرْنا نحو الهلاك الأبدي. فعندما استرحم الغني المعذَّب في لهيب نار جهنّم ابراهيمَ ليرسل لعازر إلى إخوته الخمسة كي يدلَّهم إلى طريق الخلاص ويجنّبهم مصير هلاكه، أجابه ابراهيم: "عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم" (لو16: 29).

 

 يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهيّة التي نقدّمها، مع صلاة وضع البخور في ختامها، لراحة نفوس موتانا وجميع الموتى المؤمنين. ونعزّي أهلهم وأنسباءهم على فقدهم، ولاسيّما الذين سبقونا إلى بيت الآب في هذه السنة......

 

 "عندهم موسى والانبياء، فليسمعوا لهم" (لو16: 29). "موسى والأنبياء" هم كلام الله في الكتب المقدّسة والإنجيل، وهم الكنيسة وتعليمها وإرشادها بفم رعاتها. وهم القدّيسون الّذين يأتون الآيات ويستجيبون الطّلبات، وهم كلمات العذراء مريم لبرناديت في مغارة لورد، وللأطفال الرّائين الثّلاثة في فاطيما، وكلمات الرّب يسوع عن محبّة قلبه للقدّيسة الرّاهبة مرغريت ماري ألاكوك، وعن الرّحمة الإلهيّة للقدّيسة الرّاهبة البولونيّة فوستينا.

 

موسى والأنبياء يختصران كلمة الله التي تشكّل الوليمة الحقيقيّة، إذا لم يغتذِ منها الإنسان يبقى جائعًا دائمًا. إنّ جشع الكثيرين إلى كسب المال، وجمعِ المقتنيات وخيرات الارض، وسعيهم إليه غير المشروع وبكلّ السبل الملتوية، دونما أيّ اعتبار لوصايا الله وتعليمه في الإنجيل والكتب المقدّسة، دليلٌ قاطع على أنّهم يرفضون الجلوس إلى مائدة كلام الله.

 

مشكلة الغني أنّه تعلّق بمقتنياته وملذاته ونسي الله، وبالتالي لم يرَ بعين الرحمة والشفقة لعازر الفقير المرمي أمام باب دارته. لم يكن الغنى سببَ هلاكه. فأغنياء كثيرون تقدّسوا ورفعوا على المذابح في غناهم، إذ كانوا "أغنياء القلب" بالمحبّة لله وللناس، وبأعمال الخير والرحمة ومنهم ملوك ورؤساء هؤلاء امتلكوا الكثير لكنّهم عاشوا متجرّدين من أموالهم، متعلّقين بإيمانهم ومحبّتهم لله وللناس وللفقراء. ليس الغنى في ما تملك أيدينا، بل في القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة التي نتحلّى بها. ولهذا قال الله: "يا بُنَي أعطني قلبك" (أمثال 23: 26)، وحذَّرنا المسيحُ الربّ: "لا يمكنكم أن تعبدوا ربَّين: الله والمال. فإمّا أن تبغض أحدهما وتحبّ الآخر؛ وإمّا أن تتبع الواحد وتنبذ الآخر" (متى 6: 24).

 

إنّنا نحيّي كلّ الأغنياء، الذين ينحنون على الفقراء والمعوزين والمرضى والمعوّقين، وذوي الاحتياجات الخاصّة والحالات الاجتماعيّة الصعبة. كافأهم الله بفيض من نعمه وبركاته، ليظلّوا قلب محبّته ورحمته النابض، ويده السخيّة في العطاء. لقد أدرك هؤلاء أنّ الغنى المشروع بركة من الله تُعطى للإنسان كي يعرف الله أكثر، ويحبّه ويخدمه في الإنسان، وكي يحقّق ذاته وينمّيها بكلّ أبعادها الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة، ويعيش في كفاءة وكرامة؛ ويُشرك غيره فيها، ليتمكّن بدوره من تحقيق ذاته، وتحفيز مواهبه.

 

إنّ المسؤولين السياسيِّين عن شؤون الدولة، مؤتمنون على خيراتها وطاقاتها ومرافقها ومالها. وهذا شرف لهم. لكنّهم مدعوّون ليمارسوا بنبل مسؤوليات وكالتهم المعطاة لهم من الشعب وفقًا للدستور (راجع مقدّمته، د). وهي مسؤوليّة تشريعيّة وإجرائيّة وإداريّة وقضائيّة، من أجل الخير العام، الذي منه خير الجميع وخير كلّ مواطن. وهو خير بكلّ جوانبه الاقتصاديّة والإنمائيّة والمعيشيّة التي تضمن للمواطن السكن والتعليم والطبابة وفرص العمل المنتج.

 

فمن واجب الضمير، في ضوء إنجيل اليوم، أن يجهدوا في تثمير المال العام والطاقات والقدرات، من أجل إخراج الشعب من حالة الفقر والحرمان، وتحسين مستوى الاقتصاد وتخفيض غلاء المعيشة. ومن واجب الضمير أن يكفّ الذين يستغلّون مواقعهم ومسؤولياتهم السياسية والوظيفية كي يغتنوا بالطرق غير الشرعية من المال العام على حساب الشعب. فليكفّوا عن السرقة والرشوة وفرض الخوّات. وليكفّوا عن عمولات الربح الخاصّ في كلّ مشروع إنمائي عام، لأغراض خاصة، وللإثراء غير المشروع. ولذلك، بكلّ أسف، نرى أنّ المشاريع الإنمائية الأقلّ كلفة نادرًا ما تُقرّر، فيما يقرّرون تلك التي تفوقها أضعافًا، من أجل عمولة أكبر! فليسأل هؤلاء عن طريقهم النهائي بعد هذه الدنيا إلى أين؟

 

 مشكورة الدول الصديقة التي تشارك في مؤتمرات المساعدة للبنان. في مؤتمر روما بنهاية هذا الشّهر من أجل تقوية الجيش اللّبناني؛ وفي مؤتمر باريس خلال أذار المقبل لدعم الاقتصاد اللّبناني. لكن هذه الدول تشترط على السلطات اللبنانيّة إجراء إصلاحات أساسيّة جذريّة وأهمّها معالجة عجز الكهرباء الذي سيتجاوز هذه السنة، بحسب الدراسات العلمية، مليارين وثلاثماية مليون دولار أميركي، بسبب ارتفاع أسعار النفط. ونتساءل: لماذا لا تُجري السلطات اللبنانيّة هذه الإصلاحات؟ ولماذا لا تقبل عروض شركات لبنانيّة معروفة بإنجازات محطّاتها الإنتاجية، توفّر هذه الكلفة الباهظة على الكهرباء، وتوقف الهدر والخسارة. فالخسارة السنوية التقديرية لمؤسّسة كهرباء لبنان مليار وخمسماية مليون دولار أميركي. وهكذا تتكلّل جهود الوزارة بالنجاح في إجراء الإصلاح المنشود.

 

 إنّنا من ناحية أخرى، نبارك مبادرات المصالحة وعلى رأسها مبادرة فخامة رئيس الجمهورية التي أُقيمت أوّل من أمس لتبريد تداعيات أحداث هذا الأسبوع المؤسفة، وقد صدمت اللبنانيّين، وكادت أن تؤدّي إلى فتنة طائفيّة واهتزاز في الأمن وخطر على إجراء الانتخابات النيابيّة. كبير هو مَن يعتذر عندما يُخطىء! وكبير هو مَن يصفح ويصالح! نأمل أن تشمل هذه المصالحة كلّ المواضيع الخلافيّة، ولاسيما تلك المرتبط بها سير المؤسّسات، وإجراء الإصلاحات، والنّمو الإقتصادي.

 

 لعازر المسكين، يرمز بشكل خاصّ إلى كلّ فقير معدم، ويرمز إلى ثلث الشعب اللبناني الذي يعيش تحت مستوى الفقر الحادّ، وإلى الثلاثين بالمئة من شبابنا العاطل عن العمل. إنّهم على ضمير الكنيسة والدولة والمجتمع.

 

لقد كان الغني بتصرّفاته سبب شكّ لإخوته الخمسة، الذين ساروا على طريقه. فشعر بثقل خطيئته، عندما طلب من ابراهيم أن يرسل لعازر إلى إخوته ليتوبوا ويبدلوا طريقة عيشهم. فكان الجواب "عندهم موسى والأنبياء"، عندهم كلامي الذي هو النور الذي يهديهم في الطريق.

 

لقد كثر الشكّ عندنا بالمَثَل العاطل على كلّ المستويات، ولهذا تتفشّى الخطايا والشرور من دون رادع ضمير. ذلك أنّ الشّك ينتقل من شخص إلى شخص، ومن جيل إلى جيل، ومن بلد إلى بلد. ولهذا يحذّرنا الربّ يسوع صراحة: "الويلُ للّذي تقع الشكوك على يده. فكان الأفضل أن يُعلَّقَ بعنقه حجر المطحنة ويُزجّ في قعر البحر" (متى18: 6-7)، حتى لا يُعدي الآخرين.

 

نسأل الله أن يغني قلوبنا بالمحبّة ومشاعر الرحمة، ويمنحنا النعمة لنتجنّب الشكوك، ونلبّي دعوته للجلوس الدائم إلى مائدة كلمته حاملة النور والحياة. فنرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي 

تذكار الموتى المؤمنين 

بكركي.