عظة قداسة البابا خلال الاحتفال بسر التوبة مع سجناء أحداث

متفرقات

عظة قداسة البابا خلال الاحتفال بسر التوبة مع سجناء أحداث

 

 

 

إن "هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!" (لو 15، 2)، لقد سمعناه للتوّ في الإنجيل. هذا ما تذمّر به بعض الفريسيّين والكتبة وعلماء الشريعة الذين كانوا مصدومين ومنزعجين من سلوك يسوع.

 

 

كانوا يحاولون عبر هذا التعبير أن يستبعدوه ويشكّكوا بمصداقيته أمام الجميع، لكنّهم لم يفعلوا شيئًا سوى إبراز أحد أكثر مواقف يسوع شيوعًا وتميّزًا وجمالًا: "يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم". وإنَّنا جميعًا خطأة، جميعًا، ولذا يستقبلنا يسوع بمحبّة، كلّنا نحن الموجودين هنا؛ وإن كان أحدٌ لا يشعر أنّه خاطئ، من بيننا جميعًا الموجودين هنا، ليعلم أنّ يسوع لن يستقبله، وسيخسر أفضل نصيب.

 

 

لا يخاف يسوع من الاقتراب من أولئك الذين، ولألف سبب، يتحمّلون ثقل كراهية المجتمع، كما هو الحال مع العشّارين - تذكّروا أن العشّارين قد اغتنوا بسرقة شعبهم؛ كانوا يثيرون الكثير من السخط - أو يتحمّلون ثقل كراهية المجتمع لأنّهم اقترفوا بعض الأخطاء في حياتهم، ثقل أخطائهم وخطاياهم، بعض الخطايا، وكانوا يسمّونهم خطأة. ويسوع يستقبلهم لأنّه يعلم أن هناك فَرَحٌ في السَّماءِ بالذين يخطأون، بِخطأة يَتوبون أَكثَرَ مِنه بِتِسعَةٍ وتِسعينَ مِنَ الأَبرارِ الذين يتابعون مسيرتهم بطريقة صالحة (لو 15، 7).

 

 

في حين أنَّ هؤلاء الأشخاص كانوا يكتفون بالتذمّر أو بالازدراء، لأنَّ يسوع كان يلتقي بالأشخاص المطبوعة ببعض الأخطاء الاجتماعيّة، ببعض الخطايا، وكانوا يقطعون الطريق أمام أيّة توبة وأيّ حوار مع يسوع، كان يسوع يقترب، وينحني (يسوع يخاطر بسمعته) ويدعو دومًا إلى النظر إلى أفق قادر على تجديد الحياة، على تجديد التاريخ. جميعنا، جميعنا نملك أفقًا. جميعنا. قد يقول أحدكم: "أنا لا أملك أفقًا". افتح الشبّاك، وسوف تجده. افتح شبّاك قلبك، افتح شبّاك المحبّة التي هي يسوع، وسوف تجده. كلّنا نملك أفقًا. هناك نظرتان مختلفتان للغاية وتتعارضان: نظرة يسوع ونظرة علماء الشريعة. نظرة عقيمة - نظرة الوشوشة والنميمة لدى الشخص الذي يتكلّم بالسوء عن الآخرين ويشعر أنّه بار- ونظرة أخرى - نظرة الربّ - التي تدعو إلى التغيّر والتوبة: إلى حياة جديدة، كما قلت منذ قليل [متوجّها للشاب الذي قدّم شهادته].

 

 

 

 

نظرة الوشوشة والنميمة

لا ينطبق هذا على ذاك الزمان فقط، بل ينطبق أيضًا على يومنا هذا! فكثيرون لا يتحملّون خيار يسوع هذا ولا يحبّونه، لا بل يعبّرون، أوّلاً بصوت منخفض وثمّ يصرخون في النهاية، عن خيبة أملهم محاولين التشكيك في سلوكه وسلوك كلّ من هم معه. لا يقبلون ويرفضون خيار القرب من الناس هذا، ومنحهم فرص جديدة. هؤلاء الأشخاص يدينون بشكل نهائي، ويشوّهون مصداقية الآخرين بشكل نهائي وينسون أنّه لا مصداقية لهم بأعين الله، وأنّهم بحاجة إلى الحنان، بحاجة إلى المحبّة والتفهّم، ولكنَّهم لا يريدون قبوله. لا يقبلونه. يبدو من الأسهل، إزاء حياة الناس، إعطاء ألقاب وتسميات توصم، ليس فقط ماضي الأشخاص، بل حاضرهم ومستقبلهم.

 

 

نضع تسميات على الأشخاص: هذا الشخص هو هكذا، وهذا ما فعله ذاك، وعليه أن يحمله باقي حياته. هكذا هم الذين يثرثرون، أصحاب النميمة، هم هكذا. تسميات لا تنتج شيئًا، في نهاية الأمر، سوى الانقسامات: من هنا الصالحين، ومن هناك الأشرار؛ من هنا الأبرار، ومن هناك الخطأة. ويسوع لا يقبل هذا الأمر. إنها ثقافة النعت: يطيب له "نعت" الأشخاص، يطيب له للغاية. "أنت ما اسمك؟" – "اسمي صالح" – "كلا، هذا نعت، ما اسمك؟". التعرّف على اسم الشخص: من أنت، ماذا تصنع، ما هي أحلامك، ماذا تشعر في قلبك... لكن هذا لا يهمّ أصحاب النميمة؛ يبحثون عن تسمية لإبعاده عنهم. ثقافة النعت التي تشوه مصداقية الشخص. فكروا بهذا الأمر، كيلا تتخذوا هذا الموقف الذي يقدّمه لنا المجتمع بسهولة كبيرة.

 

 

هذا التصرّف يلوّث كلّ شيء، لأنه يبني جدارًا غير مرئيّ يشير إلى أن التهميش والفصل والعزل سيحّل كلّ المشكلات بطريقة سحريّة. وعندما يسمح لنفسه مجتمعٌ ما أو جماعةٌ ما بذلك، ولا يفعل سوى الهمس والنمنمة والوشوشة، فإنه يدخل في دائرة مفرغة من الانقسامات واللوم والإدانات؛ هذا مثير للاهتمام: هؤلاء الأشخاص الذين لا يقبلون يسوع، وما يعلمنا يسوع، هم أشخاص يتشاجرون دومًا فيما بينهم، ويدينون بعضهم البعض، وسط الذين يشعرون بأنّهم أبرار. ومن ناحية ثانية إنّه عمل تهميش وإقصاء ومعارضة، يجعله يقول بشكلٍ غير مسؤول مثل قيافا: "خَيرٌ لكُم أَن يَموتَ رَجُلٌ واحدٌ عَنِ الشَّعْب ولا تَهلِكَ الأُمَّةُ بِأَسرِها" (يو 11، 50). خير أن نحمي الجميع هنا، وألّا نزعجهم، نحن نريد أن نحيا بسلام. وهذا قاس للغاية، هذا ما اضطر يسوع أن يواجهه، وهذا ما نواجهه اليوم نحن أيضًا. وعادة ما ينكسر الخيط عند النقطة الأضعف: نقطة الفقراء والضعفاء. وهم الذين يعانون الأكثر من ديانة المجتمع لهم التي لا تسمح لهم بالوقوف مجدّدا.

 

كم يؤلمنا أن نرى مجتمعًا يركّز طاقاته على التذمّر والازدراء، بدلاً من العمل، والسعي إلى خلق الفرص وإلى التغيير!

 

 

 

نظرة التوبة: النظرة الأخرى

لكن الإنجيل بكامله هو مطبوع بهذه النظرة الأخرى التي تنبع من قلب الله، لا أكثر ولا أقل. فالله لا يتخلّى عنك أبدًا. الله لا يتخلّى عن أحدٍ أبدًا. يقول الله لك: "تعال". الله ينتظرك ويعانقك، وإن كنت لا تعرف الطريق فهو يأتي ليبحث عنك، كما صنع الرّاعي مع الخراف. لكن النظرة الأخرى تنبذ. الربّ يريد الاحتفال عندما يرى أبناءه يعودون إلى البيت (لو 15، 11- 32). وهذا ما شهد له يسوع، مُظهرًا إلى أقصى حدّ، محبّة الآب الرَّحيمة. لنا أب. لقد قلته أنت: وأعجبني اعترافك: لنا أب. أنا لي أب يحبُّني. هذا أمر جميل. محبَّة، محبَّة يسوع، وهي محبّة ليس لديها الوقت للتذمّر، بل تحاول أن تكسر دائرة النقد العديمة الفائدة واللامبالية، والعقيمة. "أشكرك يا رب - قال عالم الشريعة ذاك - لأنّني لست مثل هذا الرجل". لست مثله. هؤلاء الذين يظنُّون أنَّ روحهم قد تنقَّت عشر مرَّات بوهم حياة عقيمة لا تخدم أي غرض. سمعت ذات مرَّة أحدِ المزارعين يقول شيئاً أدهشني: "الماء الأنظف ما هي؟ أجل، الماء المقطرة -قال-. أنت تعرف أبتي، أنّني عندما أشربها، لا طعم لها".

 

 

هكذا هي حياة أولئك الذين ينتقدون ويثرثرون وينفصلون عن الآخرين: فهم يشعرون بأنَّهم أنقياء جدًا، معقمين، لذا فلا طعم لهم، وهم غير قادرين على دعوة أي شخص، ويعيشون في رعاية أنفسهم، كي يجملوا أنفسهم، لا كي يمدُّوا يدهم للآخرين ويساعدوهم على النمو. أي ما يصنعه يسوع، فيقبل تعقيد الحياة وتعقيد أيّ وضع كان؛ محبَّة يسوع، محبَّة الله، محبَّة الله الآب، هي محبّة تفتتح ديناميكيّة قادرة على إبداع طرق وتقديم فرص للاندماج وللتغيير، فرص للشفاء وللغفران، طرق للخلاص.

 

 

إنّ يسوع، إذ يأكل مع العشارين والخطأة، يكسر المنطق الذي يفصل، والذي يستبعد، والذي يعزل، والذي يقسم باطلًا بين "الأخيار والأشرار". وهو لا يفعل ذلك بمرسوم أو فقط بمقاصد حسنة، ولا حتى من خلال العمل التطوّعي أو عبر العواطف. كيف يفعل ذلك؟ عبر إنشاء روابط قادرة على قبول مسارات جديدة؛ هو يراهن على كلّ خطوة ممكنة ويفرح بها. هذا هو السبب في أنَّ يسوع، عندما تاب متى -تجدونه في الإنجيل- لا يقول له: "حسنا، حسنا، تهانينا، اتبعني". لا، بل يقول له: "لنذهب ونحتفل في المنزل"، ويدعو جميع أصدقائه، الذين كانوا، مثل متَّى، يدينهم المجتمع، للاحتفال. صاحب النمنمة، الذي يقسم، لا يعرف كيف يحتفل لأنَّ المرارة تملأ قلبه.

 

 

خلق الروابط، والاحتفال، هذا ما يصنعه يسوع. ويضع حدًّا بهذه الطريقة لنميمة أخرى ليس من السهل اكتشافها والتي "تخترق الأحلام" لأنها تتكرّر مثل وشوشة مستمرّة: "لستَ قادرًا على ذلك، لستَ قادرًا على ذلك". كم من مرَّة سمعتم هذا القول: "لستَ قادرًا على ذلك". انتبه، انتبه: إنّ هذا يشبه الدودة التي تأكلك من الداخل. عندما تسمع "لستَ قادرًا على ذلك"، إصفع ذاتك: "أجل، أنا قادر وسوف أثبته لك". إنّها الثرثرة الداخليَّة، النمنمة الداخليَّة، التي تظهر في الشخص الذي، بعد أن يبكي خطيئته، وهو يدرك خطأه، لا يؤمن أنّه يمكنه التغيّر. وهذا يحدث عندما يكون المرء مقتنعاً بشكل وثيق بأنَّ الذي يولد "عشّارًا" يجب أن يموت "عشّارًا"؛ وهذا غير صحيح. لكن الإنجيل يقول لنا العكس.

 

 

أحد عشر رسول من بين الرسل الاثنيّ عشر كانوا خطأة، لأنّهم ارتكبوا أسوأ الخطايا: لقد تخلوا عن معلّمهم، وآخرون نكروه، والبعض الآخر هرب. الرُّسل، قد خانوا، وذهب يسوع للبحث عنهم واحدًا تلو الآخر، وهم الذين غيَّروا العالم. لم يقل أحد منهم: "لست قادرًا على ذلك"،لأنّهم قالوا بعد أن رأوا محبَّة يسوع لهم بعد الخيانة: "أنا قادر على ذلك، لأنّك ستعطيني القوَّة". حذار من دودة الـ "لست قادرًا على ذلك"! يجب الانتباه.

 

 

 

أيّها الأصدقاء، إنَّ قيمة كلّ واحد منّا هي أكبر بكثير من "التسميات" التي يعطونها لنا؛ أكبر بكثير من الصفات التي يريدون إعطاؤها لنا، إنَّها أكبر بكثير من الإدانة التي فرضوها علينا. هكذا يعلّمنا يسوع ويدعونا إلى الاعتقاد. ونظرته تحثّنا على التماس المساعدة وطلبها كيما نسير في سبل التغلّب عليها. تبدو الوشوشة في بعض الأحيان وكأنّها تنتصر، ولكن لا تصدّقوها، لا تصغوا إليها. ابحثوا عن الأصوات التي تدفعكم للتطلّع إلى الأمام واصغوا إليها، لا إلى تلك التي تشدّ بكم للأسفل. اصغوا إلى الأصوات التي تفتح لكم النافذة وتريكم الأفق. "لكنّه بعيد!" - "أجل، لكنّك قادر على ذلك". انظر جيِّدًا وسوف تحقّقه! في كلِّ مرَّة تأتي فيها دودة الـ "لست قادرًا على ذلك"، أجيبوا من داخلكم: "أنا قادر على ذلك"، وانظروا إلى الأفق.

 

 

يأتي فرح المسيحيّين ورجاؤهم -نحن جميعًا، حتى البابا- من عيشهم خبرة نظرة الله هذه التي تقول لنا: أنت من أهل بيتي ولا يمكنني أن أتركك للعواصف. إنّه صوت الله الذي يقول لكلٍّ منَّا، لأنَّ الله أب –أنت قلته. "أنت من أهل بيتي ولن أتركك للعواصف، لن أدعك أرضًا في الطريق، كلا، لا أستطيع أن أضيِّعَك في الطريق"- يقول لنا الله، لكلٍّ منَّا، باسمه واسم عائلته، "أنا هنا معك". هنا؟ نعم هنا. هذا هو عندما نشعر، كما قلتَه لنا لويس، أنَّ أمرًا ما قال لك، في تلك اللحظات عندما بدا كلّ شيء وكأنّه انتهى: لا! لم ينتهِ كلّ شيء، لأنّه لديك غاية كبيرة تسمح لك بفهم أنَّ الله الآب كان معنا جميعًا وما زال معنا، ويعطينا أشخاصًا نسيرُ ونتعاونُ معهم للوصول إلى أهداف جديدة.

 

 

وهكذا يحوّل يسوع التذمّر إلى عيد ويقول لنا: "افرح معي! (لو 15، 6). لنذهب للاحتفال". سررت ذات مرَّة حين وجدت ترجمة لمثل الابن الضال، تقول إنّه عندما رأى الأب ابنه يعود إلى المنزل، قال: "لنذهب ونحتفل"، وحينها بدأ الاحتفال. وقالت ترجمة أخرى: "حينها بدأ الرقص". الفرح، الفرح الذي يستقبلنا به الله مع عناق الآب. "بدأ الرقص".

 

 

أيّها الإخوة، أنتم من أهل البيت، ولديكم الكثير لتشاركونا به. ساعدونا لنعرف أفضلَ طريقةٍ لعيش ومرافقة عمليّة التحوّل التي نحتاجها جميعًا كأسرة واحدة. جميعا.

 

 

إنَّ المجتمع يمرض عندما لا يستطيع الاحتفال بتغيّر أبنائه؛ وتمرض الجماعة عندما تعيش الثرثرة التي تسحق وتدين، دون حساسيّة، صاحب النميمة. يكون المجتمع مثمرًا عندما يعرف كيف يولد ديناميكيّات قادرة على الإدماج والتكامل، وعلى تولّي مسؤولية خلق الفرص والبدائل والنضال من أجلها؛ فرص تعطي إمكانيّات جديدة لأبنائه؛ وعندما يلتزم بخلق مستقبل فيه مجتمع وتربية وعمل. هذا المجتمع هو سليم. حتى وإن كان قد يختبر عجزه عن معرفة الطريقة، فهو لا يستسلم ويحاول مرّة أخرى. ويجب علينا جميعًا مساعدة بعضنا البعض كي نتعلّم، في المجتمع، كيف نجد هذه الطرق، كيف نحاول ونعيد المحاولة. هو عهد، يجب أن نتحلّى بالشجاعة كي نحقّقه: وأنتم، أيُّها الشبيبة، والمشرفين، والسلطات المركزيّة والسلطات الوزاريّة، والجميع، وعائلاتكم، وحتّى العمّال الرعويِّين. جميعكم، جاهدوا، جاهدوا، من أجل إيجاد طرق للإدماج وللتغيّر. فالربّ يبارك هذا العمل، الربُّ يدعم هذا العمل، والربُّ يرافقه.

 

 

سنستأنف بعد قليل الاحتفال بسرّ التوبة، حيث سنتمكّن جميعًا من اختبار نظرة الربّ، التي لا ترى صفة، أبدًا: ترى إسمًا، وتنظر في الأعين، تنظر إلى القلب. لا ترى تسمية أو إدانة، إنّما ترى الأبناء. نظرة الله التي ترفض الاستبعاد وتمنحنا القوّة لإنشاء العهود الضروريّة لمساعدتنا جميعًا على رفض التذمّر، تلك العهود الأخويّة التي تسمح لحياتنا بأن تكون دائمًا دعوة إلى الفرح وإلى الخلاص، إلى فرح وجود أفق أمامنا، إلى فرح الاحتفال بالابن. لنتخذ هذه الدرب. شكرًا.

 

 

 

 

عظة قداسة البابا فرنسيس

خلال الاحتفال بسر التوبة مع سجناء أحداث

الزيارة الرسولية إلى بنما- باكورا

الجمعة 25 يناير/كانون الثاني 2019

 

موقع الكرسي الرسولي.