"سُمِّيَ يسوع" (لو2:21)
1.تحتفل الكنيسة بعيد اسم يسوع، المخلِّص الذي افتدى البشريّة جمعاء، وقدَّم الخلاص لكلِّ إنسان، زارعًا سلامه في القلوب، لكي ينتشر ويصبح ثقافة سلام. فالمسيح "أمير السلام" (أش 9: 5) انتصر على العنف والشّر بالمحبة والرحمة، فأضحى سلامنا (أفسس 2: 14).
في ضوء هذا العيد أنشأ الطوباوي البابا بولس السادس في الأوَّل من كانون الثاني 1967 "يوم السلام العالمي". ومذ ذاك الحين، والبابوات يوجِّهون رسالة خاصّة بيوم السلام. إنّ رسالة قداسة البابا فرنسيس لهذا اليوم تحمل عنوان: "اللّاعنف أسلوبُ سياسةٍ من أجل السلام". وكون هذا الأحد يلي عيد الميلاد، فالكنيسة تحتفل أيضًا بعيد العائلة المقدَّسة، حيث كان يسوع "ينمو بالقامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس" (لو2: 52)، وهي أيقونة كلّ عائلة بشرية. وفيها يزرع السلام، لكي يشمل العائلة الأكبر الاجتماعيّة والوطنيّة والدوليّة.
إنّني أحيّي معكم اللّجنة الأسقفيّة "عدالة وسلام"، بشخص رئيسها سيادة أخينا المطران شكرالله نبيل الحاج، ونائب الرئيس، وأعضائها، الذين دعوا إلى هذا الاحتفال ونظّموه. وفي ختامه سيكرّمون شخصيّات وجمعيّات تعزِّز ثقافة اللاعنف.
2. ويطيب لي في المناسبة أن أقدّم أخلص التهاني والتمنيات بالسنة الجديدة 2017، لفخامة رئيس الجمهورية، الممثّل بمعالي الأستاذ بيار رفّول، وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية، ودولة رئيس مجلس النوّاب الممثّل بسعادة النائب سيمون أبي رميا، إننا من خلالهم نحيّي الدّولة اللبنانيّة الّتي تستعيد مؤسّساتها الدستوريّة، وتنطلق نحو بناء دولة القانون القادرة والمنتجة، دولة الإنماء الإقتصادي والاستقرار المالي، دولةٍ يثق بها المواطنون، في الدّاخل والخارج، بمقدار ما تكون دولة خدمة الخير العام الّذي منه خير الجميع وخير كل مواطن. وإنّنا نقدّم هذه التهاني والتمنّيات لقداسة البابا فرنسيس الممثّل بسيادة السفير البابوي؛ ونقدّمها لكم جميعًا، ولكلّ اللبنانيّين المقيمين والمنتشرين، ولأبناء وبنات كنائسنا الشرقيّة المتواجدين في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الانتشار، ولكلِّ ذوي الإرادة الحسنة الذين يؤمنون بأنّ اللاعنف يشكّل "المكافحة السلميّة التي تستعمل سلاحَي الحقيقة والعدالة"، وتأتي بنتائج مذهلة، كما يشير قداسة البابا فرنسيس في رسالته، فيذكر على سبيل المثال: المهاتما غندي وخان عبد الغفّار خان اللَّذين نجحا في تحرير الهند، ومارتين لوتر كينغ الذي حارب التمييز العنصري في أميركا، وآلاف النساء اللواتي نلْن بالصلاة والاعتراض اللّاعنفي عقد مفاوضات على مستوى رفيع لإنهاء الحرب الأهليّة الكبيرة في ليبيريا، أمثال Leymah Ghowee. كما يذكِّر بسقوط النظام الشيوعي في اوروبا، بقوة صلوات الجماعات المسيحيّة وخدمة وتعليم القدِّيس البابا يوحنا بولس الثاني، في السنوات العشر التاريخيّة (الفقرة 4).
3. لا يتلاءَم السلام مع العنف، ولا يمكن الوصول إلى السلام بممارسة العنف. فالعنف يولّد العنف. لذلك اختار البابا فرنسيس موضوعًا لرسالته: "اللاعنف أسلوبُ سياسةٍ من أجل السلام". ودعا "ليصبح اللاعنف نهجًا مميَّزًا لقراراتنا وفي علاقاتنا العائليّة والاجتماعيّة وأفعالنا، وفي السياسة بكلّ أشكالها، على المستوى اليومي والمحلّي والعالمي. فإنّ ضحايا العنف، إذا عرفوا كيف يقاومون تجربة الثَّأر، بإمكانهم أن يكونوا روّادًا ذوي صدقية لنهج اللاعنف من أجل بناء السلام (الفقرة الأولى).
4. عندما تتكلّم رسالة البابا فرنسيس عن اللّاعنف "كنهج لسياسة من أجل السلام"، إنّما تؤكِّد ما كتبه القديس البابا يوحنا الثالث والعشرون في رسالته العامّة "سلام على الأرض"، وهو أنّ الطريق المؤدِّي إلى السلام إنّما هو "الحقيقة والعدالة والحرية والمحبة"؛ كما تؤكّد ما توجَّه به الطوباوي البابا بولس السادس إلى الشعوب محذِّرًا من "خطر الاعتقاد أنّ النزاعات الدولية لا تستطيع إيجاد حلول لها عن طريق العقل، اي بالمفاوضات المبنيّة على الحقّ والعدالة والإنصاف، بل فقط بواسطة القوى التي تزرع الرعب والقتل". ويؤكّد "أنّ السلام هو الخطّ الوحيد والحقيقي لبلوغ الترقّي البشري، لا التوتّرات القوميّة ذات الطموح المفرط، ولا الفتوحات العنيفة، ولا القمع الخلّاق لنظام مدني كاذب" (راجع الفقرة الأولى).
5. لقد مارس الربّ يسوع اللّاعنف ودعا إليه كطريق إلى السلام، عندما علَّم تلاميذه أن يحبّوا أعداءهم (متى5: 44)، وأن يحوِّلوا الخدّ الآخر (متى 5: 39)، وعندما منع الذين كانوا يشتكون المرأة الزانية عن رجمها (يو8: 1-11)، وعندما طلب من بطرس أن يردّ السيف إلى غمده ليلة الاعتداء عليه وتسليمه إلى الآلام والموت (متى26: 52)، وعندما غفر لصالبيه (لو23: 34). وهكذا رسم لنا طريق اللّاعنف الذي سلكه حتى الصليب. وبه اكتملت البشرى السّارة التي تدعونا لقبولها، فنصبح فاعلي سلام، وصانعي مصالحة، وفقًا لما يحثّنا عليه القدّيس فرنسيس الأسيزي: "السلام الذي تعلنونه بأفواهكم، إحفظوه أيضًا في قلوبكم". إنّ إنجيل محبة الأعداء، يسمّيه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر "الشرعة الكبرى للّاعنف المسيحي" (الفقرة 3).
6. اللّاعنف لا يعني الإستسلام للشَّر، بل هو الإجابة على الشَّر بالخير (راجع روم12: 17-21)، التي نكسر بها سلسلة الظّلم، فنعطي اللاعنف صفة الإيجابيّة الفاعلة. فاللّاعنف الفاعل، بحسب القديسة الأمّ تريزا دي كلكوتّا، "لا يحتاج إلى قنابل وأسلحة، ولا إلى الهدم لنحصل على السلام، بل يحتاج أن نكون معًا، أن نحبّ بعضنا بعضًا، وبذلك نستطيع الإنتصار على كلّ الشرّ الموجود في العالم". فقوّة السّلاح تغشّ.
قالَ البابا فرنسيس عن الأم تريزا في عظة الإحتفال برفعها قدّيسة على مذابح الكنيسة، أنّ اللاعنف الفاعل الذي مارسته ظهرَ في عنايتها بالحياة البشريّة، من الحياة في حشا الأمّ، إلى الحياة المهملة والمرفوضة. لقد انحنت على الأشخاص المرميِّين على الطّرقات حيث يواجهون الموت، إذ رأت فيهم الكرامة التي منحهم إيّاها الله، وأسمعت صوتها إلى مقتدري الأرض لكي يعترفوا بأخطائهم تجاه الجرائم، ولاسيّما جرائم الفقر الذي تسبّبوا به هم أنفسهم. وراحت مع الآلاف والملايين إلى لقاء الضّحايا بسخاء والتزام، ملامِسةً ومُضمِّدةً كلّ جسم مجروح، وشافية كلّ حياة مكسورة (الفقرة 4).
7. في هذا الأحد الذي نُحيي فيه عيد العائلة المقدّسة، يذكِّرنا قداسة البابا فرنسيس أنّ السلام يجد أصوله في العائلة، لأن من داخلها ينتشر الحب والفرح في العالم، ويشعّ في كل المجتمع (راجع الفقرتين 3 و5). ويدعونا في رسالته لإدخال رحمة الله في قلوبنا ولزرع السلام في داخل العائلة. ينبغي أن تبدأ سياسات اللّاعنف في داخل جدران البيت، لكي تنتشر بعدها في كلّ العائلة البشريّة. أمّا النّهج فتقدّمه لنا القدّيسة تريز الطّفل يسوع، وهو سلوك الطريق الصّغير: طريق الحبّ، والكلمة اللّطيفة، والبسمة، وأي فعل أو مبادرة صغيرة تزرع السلام والصداقة. بهذه الإيكولوجيا الشّاملة نكسرُ منطق العنف والإستغلال والأنانيّة (الفقرة 5).
8. يختم البابا فرنسيس رسالته ليوم السلام العالمي 2017 بالدّعوة إلى بناء السلام بواسطة اللاعنف الفاعل، بالإنسجام مع جهود الكنيسة من أجل الحدّ من إستعمال القوّة، من خلال إعلان المبادئ الأخلاقيّة، ومشاركتها في أعمال المؤسّسات الدوليّة، وبفضل مساهمة العديد من المسيحيّين في التشريعات على مختلف الأصعدة. ويُذكِّر البابا أنّ الربّ يسوع يقدّم في إنجيل التّطويبات، برنامجًا وتحدّيًا للمسؤولين في المؤسّسات الدّوليّة، وللمقاولين والإعلاميّين.
ويُنهي بالدعاء إلى السيّدة العذراء، ملكة السلام، أن تكون هاديتنا في طريق اللّاعنف، لكي بالصلاة والعمل، ننتزع العنف من قلوبنا وكلامنا وأفعالنا، ونبني جماعات لاعنف، تعتني ببيتنا المشترك. وهكذا نستطيع كلّنا أن نكون صانعي سلام (الفقرتان 6و7).
إنّنا من قلوبٍ ملؤها السلام نرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدس، الآب والإبن والروح القدس، مصدر كلّ سلام، الآن وإلى الأبد، آمين.