"اسمه يوحنّا" (لو 1: 63)
بمولد يوحنّا المعمدان، قَبْلَ ميلاد يسوع ابن الله بستّة أشهر، وبإعطائه اسم "يوحنّا" الّذي يعني "الله رحوم"، تبيّن أنّ تاريخ الخلاص سائر إلى اكتماله. فرحمة الله المعلنة بشخص يوحنَّا، اكتملت في المسيح، آخذة جسدًا بشريًا. وهكذا سبق مولدُ يوحنَّا ميلاد يسوع، مثلما يسبق الفجر طلوع الشّمس. ولذا، دعي "اسمه يوحنّا" (لو 1: 63)، لأنّ الله يفتقد شعبه بوافر رحمته.
2. يسعدني أن اُحيِي معكم عيد شفيع هذا الدّير التّاريخي العامر، ونحن نحتفل بالليتورجيّا الإلهيّة الّتي نقدّمها على نيّة رهبانيّة مار يوحنّا المعمدان حراش هنا في بلدة عين الرّيحانه العزيزة. نصلّي من أجل ازدهار الدّير ومدرسته، ونموّ الحياة الرّهبانيّة فيه. ولا شكّ أنّ يد الله مع الدّير والرّهبانيّة وقد تأسّسا سنة 1643، أي منذ 375 سنة، على يد البطريرك حبيب العاقوري. ونذكر المطران عبدالله قراألي، أحد مؤسّسي الرهبانيّتين المارونيّة المريميّة، واللبنانيّة المارونيّة، في سنة 1695، في عهد المكرّم البطريرك الكبير اسطفان الدّويهي.
وقد أتى المؤسّسون من مدينة حلب. ولمّا أصبح مطرانًا على بيروت، سكن في هذا الدّير، وساعد الرّاهبات المحصّنات أساسًا على عيش حياتهنّ المكرّسة، وسنّ لهنّ قوانين شكّلت دستورًا لسائر أديار الرّاهبات المستقلّة. وقد أُرسلت بعض الرّاهبات إلى أديار مماثلة لتدريب جمهورها على هذه القوانين (المجمع البطريركي الماروني، النّص 8: الحياة الرّهبانيّة في الكنيسة المارونيّة، 13).
إنّا، إذ نهنّئ الرّاهبات العزيزات بعيد شفيعهنّ، وفي مقدّمتهنّ الرّئيسة العامّة ومجلسها، ندعو لهنّ ولكم جميعًا، ولكلّ الّذين يزورون هذا الدّير المبارك، بفيض النّعم الإلهيّة والبركات السّماويّة.
3. "اسمه يوحنّا" (لو 1: 63)، "الله رحوم". لقد تجلّت رحمة الله لزكريّا وإليصابات العجوزين بإعطائهما ولدٌ قال عنه الرّب يسوع: "لم يولد مثله في مواليد النّساء" (لو 7: 28). وتجلّت في حلّ عقدة لسان زكريا، فتكلّم وبارك الله بعد تسعة أشهر من البكم. كما "تجلّت للشعب لأنّ الله افتقده" (لو 1: 78). أجل رحمة الله، وأمانته لرحمته، "تدوم لألف جيل" (خروج 34: 6). وتستمرّ على الرّغم من خيانة البشر وخطاياهم. فهو "غنّي بالرّحمة" (أفسس 2: 4)، حتّى أنّه بذل ابنه الوحيد مائتًا على الصّليب ليحرّرنا من الخطيئة. إنّه "إله رحومٌ شفوق، بطيء للغضب، وغنيّ بالنّعمة والأمانة" (خروج 34: 6).
4. بعد أن "طوّب الرّب يسوع الرّحماء لأنّهم سيُرحمون" (متى 5: 7)، دعانا "لنكون رحومين كما الآب السّماوي رحوم هو" (لو 6: 36). ذلك أنّ العالم يحتاج إلى رحمة، لكي يتمكّن النّاس من أن يتصالحوا من كلّ القلب، ويتبادلوا الغفران عن الإساءات، ويعيشوا فرح المصالحة وسعادتها؛ ولكي يمارس المسؤولون العدالة والإنصاف، ونعطف كلّنا على الفقراء والمعوزين. الرّحمة تنفي الظّلم والاستبداد والاستكبار. إنّها تلطّف العدالة، وإلاّ أصبحت العدالة ظلمًا بدونها، ولا سيّما عندما تُسيّس.
إنّنا نصلّي كي تنفتح قلوب السياسيِّين لقبول المحبّة والرّحمة من الله، فيضعوا حدًا للإساءات الكلاميّة، وللعنف والحرب؛ وكي يشعروا مع المواطنين في حاجاتهم، فيُخرجوهم من حالة العوز والبطالة والهجرة النّفسيّة والحسيّة؛ وكي يعطفوا على الأطفال والأجيال الطّالعة والشّبيبة، فيفتحوا أمامهم آفاقًا جديدة ومستقبلاً واعدًا.
الإنسان من دون محبّة ورحمة يفقد إنسانيّته، ويصبح وحشًا لأخيه الإنسان: يستغلّ ضعفه وحاجاته ليكسب مال الحرام بالسّرقة والرّشوة والتّلاعب بالأسعار وفرض الخوّات من دون وجه حقّ ؛ ويحجم عن مدّ يد المساعدة له في حاجته، بينما هو يبذّر ماله. ومعلوم أنّ "خيرات الأرض معدّة من الله لجميع النّاس".
نتعلّم الرّحمة في مدرسة المسيح من ذبيحة القدّاس: فقد قدّم ذاته لمحبّة الآب ذبيحة كاملة من أجل خلاص الجنس البشريّ. إنّها ذروة الرّحمة وثمرتها. الرّحوم وحده يضحّي من ذاته ومن قلبه ويده. فالرّحمة تفوق كلّ شيء. ولهذا ردّد الرّب يسوع كلمة هوشع النّبي: "أريد رحمة لا ذبيحة" (متى 9: 13؛ 12: 7).
5. ليست الرّحمة أمرًا محصورًا بعالم الرّوحانيّات، لكنّها فضيلة يجب أن يتحلّى بها أصحاب السّلطة في الكنيسة والمجتمع والدّولة. اليوم أكثر من أي زمن مضى هي ضروريّة عند الّذين يتولّون الحكم تشريعًا واجراءً وإدارة وعدالة. وكم نرجو أن يتحلّى بها الّذين سيُدعون ليكونوا وزراء في الحكومة الجديدة المنتظرة. شعبنا الآخذ بالافتقار بحاجة إلى رحمتهم فيما هم يمارسون مسؤوليّاتهم. صرخة التجّار الّذين رفعوها عاليًا أوّل من أمس، منذرين بأنّ ما بين 20 و 25 % من المؤسّسات التّجاريّة ستقفل أبوابها خلال عامين، في حال بقيت الظّروف الاقتصاديّة على حالها، بحاجة إلى رحمتهم. فيجب تأليف الحكومة بالسّرعة القصوى، للبدء بالإصلاحات في الهيكليّات والقطاعات، وتوظيف الأموال الموعودة في مؤتمر باريس – CEDRE المنعقد في 6 نيسان الماضي.
أهالي تلامذة المدارس بحاجة إلى رحمة المسؤولين لكي تساعدهم الدّولة ماليًا، فيتمكّنوا من ممارسة حقّهم في اختيار المدرسة الّتي يريدونها لأولادهم في القطاعين الرّسمي والخاصّ. فلا يمكن أن تكتفي وزارة التّربية بالحصول من الاتّحاد الأوروبي، بنتيجة مؤتمر Breuxelles، المنعقد في 26 نيسان الماضي، على مساعدة 100 مليون يورو لدفع رواتب المعلّمين في المدارس الرّسميّة، بالإضافة إلى 65 مليون، منها 52 مليون لمساعدة النّازحين السّوريين، و 13 مليون لمساعدة اللاّجئين الفلسطينيين. بل كان من واجب الوزارة المطالبة بمساعدة ماليّة لمساعدة الأهالي الّذين يختارون المدرسة الخاصّة لأولادهم، من خلال تحمّل جزء من رواتب المعلّمين أو الأقساط بنتيجة القانون 46/ 2017 الخاص بسلسلة الرّتب والرّواتب.
المستشفيات والمؤسّسات الإجتماعيّة الكنسيّة بحاجة إلى واجب الدّولة الرّحوم، لكي تفي بالمتوجّبات الماليّة عليها، لقاء ما تقدّم هذه المؤسّسات من خدمات هي أساسًا من واجبات الدّولة، والكنيسة تقوم بها عنها. فكيف يمكنها أن تؤمّن الخدمة اللاّزمة والمتطوّرة والملائمة للعلم الطبّي، وهي ترزح تحت الأعباء الماليّة بسبب تقاعس الدّولة عن واجباتها؟
6. إنّنا نرفع صلاتنا إلى الله، في هذه الذّبيحة المقدّسة، بشفاعة القدّيس يوحنا المعمدان، ملتمسين منه أن يملأ بالرّحمة قلوب الجميع ولاسيّما قلوب المسؤولين في الكنيسة والعائلة، وفي المجتمع والدّولة، كي تعيش في عالم أكثر إنسانيّة، كما يريده الله. وإنّا نرفع نشيد المجد والتّسبيح لله الغنيّ بالرّحمة، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرّاعي عيد مار يوحنا المعمدان - دير حراش
موقع بكركي