عظة البطريرك الرّاعي - عيد العنصرة

متفرقات

عظة البطريرك الرّاعي - عيد العنصرة

 

 

"وأنا أسأل الآب فيعطيكم بارقليطًا آخر، روح الحقّ" (يو16:14)

 

 

 

 

      1. هذا الوعد بإرسال الرّوح المعزّي، روح الحقّ، للذين يحبّون يسوع ويحفظون وصاياه، أتمّه الرّبّ بعد خمسين يومًا من قيامته. فكما حلّ فصح يسوع محلّ الفصح اليهوديّ في ذاك الخامس عشر من نيسان، كذلك حلَّ مكانَ عيد الأسابيع السّبعة بعد الفصح، المعروف بعيد بواكير حصاد الحنطة (خروج 23:34)، عيدُ العنصرة؛ أي حلول الرّوح القدس على الرسل المجتمعين في العلّية.

 

 

 

 

      في هذا العيد اكتمل تحقيق تصميم الله الخلاصيّ، وانجلى سرُّ الله الواحد والثّالوث: الآب الخالق، والابن الفادي والمخلّص، والرّوح القدس متمّم ثمار الفداء والخلاص. إلهٌ واحدٌ في الطّبيعة، ومثلَّث في الأقانيم والأعمال.

 

 

 

 

      2. يُسعدنا أن نحتفل معكم بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة، ونحيي عيد حلول الرّوح القدس على الكنيسة وجميع أبنائها وبناتها الذين يحبّون يسوع المسيح، ويحفظون وصاياه. فالرّوح، وهو المحبّة الإلهيّة الجامعة سرّ الله الواحد والثّالوث، لا يمكن أن يُقبل إلّا من قلوبٍ منفتحةٍ على الحبّ الإلهيّ، قلوبٍ تعبّر عن حبّها بحفظ الوصايا الإلهيّة بالأقوال والأفعال. فيأتي الرّوح القدس ليشعل نار الحبّ في قلوبنا أكثر فأكثر، ويحفظها متّقدة. ولهذا وعد الرّبّ يسوع: "إن كنتم تحبّوني تحفظوا وصاياي، وأنا أسأل الآب فيعطيكم برقليطًا آخر مؤيّدًا يكون معكم إلى الأبد" (يو14: 15-16). هذا الرّوح البارقليط هو الرّوح القدس المشجّع والمقوّي والمعزّي والهادي والمشير، الذي يقود الكنيسة والمؤمنين إلى كلّ الحقيقة. ويفعل ذلك بمواهبه السّبع: الحكمة والفهم والعلم لإنارة العقول وتوطيد الإيمان؛ المشورة والقوّة لتشديد الإرادات وثبات الرّجاء؛ التّقوى ومخافة الله لإشعال نار المحبّة في القلوب. إنّنا نلتمس اليوم في هذه الذبيحة المقدسة هذه المواهب، هاتفين: "هلمّ، أيّها الرّوح القدس، واملأ باطن قلوب مؤمنيك".

 

 

 

 

      3. في عيد العنصرة تحتفل قناة تيلي لوميار وفضائيّتها نورسات بعيدها. تيلي لوميار بعيد تأسيسها التّاسع والعشرين، ونورسات بعيدها الثّامن عشر. فيما نهنىء القيمين عليهما، نودّ تذكير الرّأي العام أنّهما محطّةٌ تلفزيونيّةٌ مسيحيّةٌ تعمل بإشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وتلتزم في برامجها بتعاليم السيّد المسيح والكنيسة، مع احترام المعتقدات الدّينيّة الأخرى، والتّعمّق في معرفتها، ومحبّة العائلات الرّوحيّة، مجموعاتٍ وأفرادًا. وتعالج القضايا الحياتيّة في ضوء الإنجيل، وتعزّز بناء حضارة المحبّة والسّلام في العالم أجمع، والعمل معًا في سبيل إنسانٍ يتمتّع بالحريّة والكرامة. كما تسهر على جعل برامجها وسيلةً أساسيّةً لنشر القيم والمبادئ المسيحيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة والثّقافيّة والفنيّة والوطنيّة.

 

 

 

 

      4. لا يسعنا في هذا العيد إلّا أن نذكر بالصّلاة إلى الله المؤسّس الأخ نور العزيز لكي، بشفاعة أمّنا مريم العذراء - شفاء المرضى - ، يعيد إليه الصحّة التّامّة بشفائه العاجل، فيواصل رسالته بقلبٍ محبٍّ وجسدٍ متفانٍ من دون حدود.

 

 

 

 

       ونذكر معه كلّ الذين رافقوا بإحسانهم وسهرهم وتشجيعهم مسيرة تيلي لوميار وفضائيّتها نورسات. فلولا دعمهم الماليّ ، لما نمت وكبرت واستمرّت. لكنّني أودّ توجيه النّداء إلى الداخل والخارج، من أجل مواصلة هذا الدّعم، يقينًا من المساهمين أنّهم يساهمون برسالة الكنيسة التي تسلّمتها من المسيح الرب، وهي أن "تعلن للعالم كلّه سرَّ المسيح وإنجيله الخلاصيّ، وتنشر تعليمه" (متى 22:28 ؛ مر 15:16). بهذا اليقين يسخو أعضاء "تجمّع أبناء الكنيسة للمحافظة على الأخلاق" من مالهم وتعبهم بدون حساب، والحِملُ ثقيلٌ للغاية، ونحن شخصيًا على اطّلاعٍ دقيقٍ ودائمٍ عليه.

 

 

 

 

      5. وفي عيد العنصرة هذا، نجدّد تكريس لبنان وبلدان الشّرق الأوسط لقلب مريم الطّاهر. فالآباء الذين شاركوا في جمعيّة سينودس الأساقفة الرّومانيّ بعنوان "الكنيسة في الشّرق الأوسط" التي انعقدت برئاسة قداسة البابا بندكتوس السّادس عشر في تشرين الأوّل 2010، أوصوا بتكريس بلدان الشّرق الأوسط لقلب مريم الطّاهر. ففعلنا ذلك في حزيران 2013، وكرّسنا هنا، في هذه البازيليك، لبنان وبلدان الشّرق الأوسط لقلب مريم الطّاهر. ورحنا نجدّد هذا التّكريس سنةً بعد سنة، وأوكلنا الاهتمام بتنظيمه إلى لجنةٍ بطريركيّةٍ برئاسة سيادة أخينا المطران شكرالله نبيل الحاج، رئيس أساقفة صور. وأتينا اليوم لنجدّد هذا التّكريس للمرّة السّابعة.

 

 

 

 

      6. لقد اختبرنا ثمار التّكريس في بلداننا المشرقيّة. ففي كلّ مرّة كان يصل لبنان إلى شفير الهاوية سياسيًّا وأمنيًّا وماليًّا، كانت يد العذراء الخفيّة تحميه وتجنّبه السّقوط. وهي بذلك تدعو اليوم المسؤولين السّياسيّين في لبنان خاصّةً، والشّعب عامّةً، للتّضامن وبذل الجهود والتّعاون من أجل حماية وطننا. وتضعنا جميعًا أمام مسؤولياتنا نحن الذين سمّيناها "سيّدة لبنان". فينبغي أن نحفظه دائمًا لائقًا بلقبها. فالمطلوب عمليًّا أن يُسرع المجلس النّيابيّ في دراسة إقرار مشروع الموازنة بدءًا من غد الإثنين من خلال لجنة المال والموازنة، مع التّركيز على مكامن الهدر والفساد، لا على دخل الطّبقة الكادحة والمؤسّسات الصّغيرة والجيش، وبخاصّة على وضع خطّةٍ للنّهوض الاقتصاديّ والاصلاح البنيويّ.

 

      ومطلوبٌ من الجماعة السّياسيّة عندنا البحث عن أفضل السّبل لتأمين الخير العام بالتّنافس في الخيارات، بدلًا من التّراشق الكلاميّ الجارح الذي يذكي الرّوح الطّائفيّة والمذهبيّة، ويوتّر الأجواء، ويعطّل الثّقة المتبادلة والتّعاون. ومطلوبٌ منها احترام القانون والعدل الذي هو أساس المُلك، وعدم التّدخّل في الإدارة والقضاء والمحاكم وشؤون الجيش وقوى الأمن الدّاخليّ وسائر الأجهزة الأمنيّة.

 

 

 

 

      ومطلوبٌ من وسائل الإعلام والتّواصل الاجتماعيّ بكلّ تقنيّاتها الكفّ عن الفلتان، واستباحة المحرّمات والمقدّسات والخصوصيّات الشّخصيّة والكرامات، وعن ابتزاز الأشخاص وتشويه صيتهم، والضّغط على القضاء ونشر تحقيقات ومحاضر سريّة، وانتهاك حرمة الموت والاستشهاد بإظهار صور جارحة. فلا يمكن أن تستمرّ الأمور على هذا المنوال، فندعو الوزارات المعنيّة لتتحمّل مسؤوليّاتها.

 

 

 

 

      7. بالنّسبة إلى بلدان الشّرق الأوسط، من كان يتصوّر خلاص العراق الذي شُنّت عليه حربٌ فكفكته، وخلاص منطقة الموصل وسهل نينوى التي فتكت بها منظّمة داعش الارهابيّة، لولا صلاة المؤمنين وحماية العذراء مريم؟ وهل مرّت بفكر أحد إمكانيّة خلاص سوريا من تقسيمها وشرزمتها إلى دويلاتٍ طائفيةٍ وإرهابيّةٍ، بعد كلّ التّدمير، وتجربة جميع أنواع الأسلحة الحديثة، وتدخّل العديد من الدّول شرقًا وغربًا في حروبها ودعمها بالمال والسّلاح والتّغطية السّياسيّة للمنظّمات الإرهابيّة والحركات الأصوليّة، وإرسال المرتزقة، وبعد تهجير الملايين من شعبها، لولا يد العذراء مريم الخفيّة والصّلوات المرتفعة إليها من كلّ القلوب؟ إنّها بهذه الحماية تدعو أبناء العراق وسوريا المشتّتين هنا وهناك وهنالك للعودة إلى وطنهم وأرضهم وحماية حقوقهم المدنيّة وهويّتهم الثّقافيّة وتاريخهم. فيتغلّبون بذلك على ما يُسمّى "صفقة القرن" التي هي تشتيتهم وإتلاف هويّتهم وتغيير مجرى تاريخهم، وجعلهم في حالة استعطاء ومعاداة مع البلدان المستضيفة.

 

 

 

 

      والأمر نفسه نقوله للفلسطينيّين أبناء الأراضي المقدّسة. فمهما كانت الظّروف السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة قاسيةً عليكم، ناضلوا بحماية العذراء مريم من أجل دولةٍ خاصّةٍ بكم وعودة جميع اللّاجئين إلى أراضيهم ليعيشوا فيها بكرامةٍ، وقاوموا "صفقة القرن" التي تبغي زوال قضيّتكم وانحلالها.

 

 

 

 

      8. يا أمّنا وسيّدتنا مريم العذراء الشّكر لكِ، السّاهرة بعين الأمّ على جميع البشر الذين افتداهم ابنك يسوع بموته على الصّليب، وجعلهم خاصّته، من كل عرق ولون ودين وأراد أن ينعموا جميعهم بالخلاص التّام في الأرض والسّماء. وفيما نجدّد اليوم تكريس لبنان وبلدان الشّرق الأوسط لقلبكِ الطّاهر، نرفع معكِ ومع جميع أبنائكِ وبناتكِ نشيد المجد لله الواحد والثّالوث، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

 

موقع بكركي.