عظة البطريرك الراعي في تكريس كنيسة التجلّي - رميش

متفرقات

عظة البطريرك الراعي في تكريس كنيسة التجلّي - رميش

 

 

 

 

عظة البطريرك الراعي في تكريس كنيسة التجلّي - رميش

 

 

"ما إن فكّر يوسف بهذا، حتى تراءى له ملاكُ الرب في الحلم " (متى 1: 20)

                                                

 

1. إنّ الجمع بين تفكير يوسف بتطليق سرّي لخطّيبته مريم الحامل بكلمة الله، بقوّة الروح القدس، وترائي الملاك له في الحلم قبل تنفيذ قراره، إنّما يدلّ على جهوزية مزدوجة، جهوزيّة الله لإعلان تصميمه، وجهوزيّة يوسف لقبول الوحي الإلهي والعمل بموجبه. ففي الواقع، "ما إن فكّر يوسف بهذا حتى تراءى له ملاكُ الربِّ في الحلم. ولمّا نهض يوسف من نومه، صنعَ كما أمره ملاكُ الربّ" (متى1: 24).

 

2. يسعدنا أن نحتفل معكم، يا أهالي رميش والمنطقة الأحبّاء، بهذه الليتورجيّا الإلهيّة التي نكرّس فيها، مع سيادة أخينا المطران شكرالله نبيل الحاج راعي الأبرشيّة السّاهر والغيور، مع كهنة الرعية، كنيسة التجلّي الرعائيّة ومذبحها. فأشكر من صميم القلب سيادته على هذه الدعوة التي أتاحت لي الفرصة الجميلة لزيارتكم مرّة أخرى، وللصلاة معكم من أجل الجنوب وبخاصّة من أجل منطقته الحدودية وأنتم منها وفيها. ويطيبُ لي، ونحن في مسيرتنا الروحيّة نحو عيد ميلاد مخلّص العالم وفادي الإنسان، ربّنا يسوع المسيح، أن أقدّم لكم أخلص التهاني مع أطيب التمنيات بأن يسطع في حياتكم نور المسيح الذي يبدّد عنكم كلّ ظلمات الحياة. ونرجو أن يفيض عليكم مع العام الجديد 2018 خيراته ونعمه.

 

3. وإنّا نقدّم هذه الذبيحة الإلهيّة من أجلكم جميعًا، أيّها الحاضرون. ومن أجل كلّ أبناء رعيّة رميش العزيزة. فنذكر موتاكم، ونصلّي من أجل شفاء مرضاكم، ونرافق بصلاتنا كلّ المقيمين والمنتشرين. ونذكر في الدعاء والصلاة كلّ الذين لهم تعب في هذه الكنيسة وفي حلتها الجديدة وكلّ المحسنين، من أهالي رميش وسواها، الذين سخوا من ذات يدهم سواء بالقليل أم بالكثير، وفق مقدورهم. ونخصّ بالذكر المهندس سعيد شوفاني الذي بإحسانه على الكنيسة أراد أن يحقّق وعده لله الذي زال عنه معاناته الصّحيّة وبارك أعماله بنجاح وافر، ونذكر معه افراد عائلته الاحياء والاموات.

 

4. بالعودة إلى البيان ليوسف، نرى جهوزيّة عالية عند الله الّذي أرسل ملاكه ليبدّد قلق يوسف. ونرى الجهوزيّة في قلب يوسف المنفتح على الكلمة الإلهيّة، بفهمه لروحيّة الشريعة وبانفتاحه على فهم أمور جديدة. هذه الجهوزيّة سمحت للربّ أن يتدخّل. إنّ الربّ جاهز على الدوام، وهو ينادي كلاًّ منّا في كلّ لحظة من حياتنا. ولكن يسمعه فقط القلب الجاهز لسماع الحقيقة، فيدخله على ما يقوله الربّ يسوع في سفر رؤيا يوحنّا: "أنا واقف على الباب أقرع، من يفتح أدخل وأتعشّى عنده" (رؤيا3: 20). هذا تمامًا ما يدعونا إليه ربّنا بقوله: "إسهروا وصلّوا" (متى 26: 41). فالصلاة هي "صلة" دائمة مع الله.

 

5. لقد كشف الملاك ليوسف ما سبق وبشّر به مريم خطّيبته:

 

أ- إن المولود منها هو من الروح القدس (الآية 20). صدّق يوسف ولو لم يفهم هذا الكلام عن الروح القدس وفعله، وهو مجهول في كتب العهد القديم. بهذه الثقة قَبِل الواقع والمهمة.

 

ونحن أيضًا، في مسيرتنا مع الله، توجد أمور كثيرة قد لا نفهمها أو نستوعب كيف تحصل. الله يفوق كلّ العقول. هو سرّ، وسيبقى على الدوام سرًّا. لذلك، المؤمن مدعوّ للثقة بالله، حتّى وإن لم يفهم كلّ شيء. وكما طمأن الربّ يوسف وأعطاه بعض الإشارات، يعطينا نحن ايضًا إشارات مطمئنة تدلّنا على وجهة سير الأمور. هذا ما نسمّيه في الكنيسة "علامات الأزمنة"، إذ نجد أنّ أمورًا تدفعنا نحو خيار معيّن وأنّنا كلّما سرنا نحوه، وجدنا سلامًا، وإن محفوفًا بالخوف أحيانًا أو بالصعوبات أو حتّى بالاضطهادت. عندها نعلم أنّ الربّ يدعونا إلى هذا الخيار. هكذا نكتشف دعوتنا في الحياة. من ينتظر أن تتوضّح له كلّ الامور حتى يقول "نعم" لله، لن ينطلق أبدًا.

 

 

ب- "سوف تلد ابنًا، فسمّه يسوع، لأنّه يخلّص شعبه من خطاياهم" (الآية 21).

 

كلّ الناس هم شعب الله. بل كلّ الذين يتوبون عن خطاياهم وينالون خلاص المسيح يصبحون شعب الله. المسيح أتى لغاية واحدة: أن يخلّص كلّ إنسان من خطاياه ويبلغ به إلى نور الحقيقة، فتسلم حياته الخاصّة والعائليّة والاجتماعيّة والوطنيّة. ذلك أنّه يستنير بنور المسيح، ويعكس هذا النور في ظلمات الحياة الخاصّة والعامّة.

 

في نصف اللّيل، في ذروة الظلمة الحالكة وُلد المسيح وسطع نوره حول الرعاة الساهرين. الظلمة رمز الخطيئة ومحن الحياة ومصاعبها. وحده نور المسيح الخلاصي، نور كلامه ونعمة الفداء، يبدّد هذه الظلمة بكلّ وجوهها. الاستعداد لعيد الميلاد يقتضي منّا الدخول في نور المسيح من أجل خلاصنا.

 

6. لا يسعنا ونحن على الحدود الجنوبية إلّا أن نذكر بصلاتنا القدس المدينة المقدسة التي على أرضها تمّ عمل الفداء: من ميلاد ابن الله إنسانًا، إلى إعلانه ملكوت الله والدخول إليه بالتوبة والولادة الجديدة، فإلى صلبه وقيامته لفداء الجنس البشري وخلاصه، وإلى تأسيس كنيسته وتثبيتها بحلول الروح القدس، وإرسالها على هديه لتعلن إنجيله، إنجيل المحبّة والأخوة والسلام، وجعلها أداة الخلاص الشامل. القدس مدينة مقدّسة أيضًا للديانتَين اليهوديّة والإسلام. فيها مدعوّون، بتدبير إلهي، ليعيش معًا بسلام جميع المؤمنين بالله من الديانات الثلاث، ويبنوا في العالم سلام الله.

 

فلا يمكن القبول بتهويد القدس، كما يرمي إليه قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أصدره في 6 كانون الاوّل الجاري، وأعلن فيه القدس عاصمة لإسرائيل، وأمر بنقل السفارة الأميركية إليها من تل أبيب. فمن الضرورة التمسّك بموقف الكرسي الرسولي وهو أن "يكون للقدس وضع دولي خاصّ يحمي جميع الأماكن المقدّسة التابعة لكلّ من الديانات الثلاث، وأن تكون القدس رمزًا عالميًا للأخوّة والسلام، مبنيًّا على سلام مستقرّ فيها".

 

7. لقد أظهر تاريخ المدينة البعيد والقريب أنّه لا يمكن لأيّ شعب أو دين أو دولة أن يحتكرها، بالرغم ممّا شهدت من حروب واحتلالات. فعلى مدى تاريخها القديم والحديث والمعاصر هوجمت 52 مرّة، وتمّ الاستيلاء عليها وإعادة تحريرها 44 مرّة، وحوصرت 23 مرّة، ودُمِّرت مرّتَين. وعلى هذه الأرض الفلسطينيّة توالى الكنعانيّون فاليهود فالرومان الوثنيّون فالمسيحيّون فالمسلمون فالصليبيّون فالأيوبيّون فالمغول فالمماليك فالعثمانيون فالبريطانيّون إلى أن وافقت الجمعيّة العموميّة في 29 تشرين الثاني 1947 على مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتَين: دولة إسرائيليّة ودولة عربيّة، على أن تبقى القدس تحت إدارة دوليّة "كجسم مستقلّ". ونشبت الحرب بين اليهود والعرب، وكانت نكبة 1948 وتهجير الفلسطينيّين، أهل الأرض؛ وأُعلنت دولة إسرائيل. وانقسمت القدس غربيّة إسرائيليّة وشرقيّة عربيّة. وفي 23 كانون الثاني 1950 قرّر الكنيست أن تكون القدس عاصمة لإسرائيل، فنقض مجلس الأمن هذا القرار في قراره رقم 478 وأعلنه باطلًا. وفي سنة 1967 بعد حرب الأيام الستّة احتلّ اليهود القدس الشرقيّة التي فيها معظم الأماكن المقدّسة للمسيحيّة والإسلام (راجع التفاصيل في مقال للمطران كيرلّس سليم بستروس: "لمَن القدس؟" في جريدة النهار 18 كانون الأوّل 2017، السنة 285، العدد 26442). هكذا تعيش القدس اجواء الخطر والحرب والتمير فيما يجب ان تكون ارض السلام.

 

لن يعرف الشَّرق الأوسط السلام ما لم تجد الشرعيّة الدوليّة حلًّا عادلًا ودائمًا وشاملًا للقضيّة الفلسطينيّة، يضمن للشعب الفلسطيني حقّه المشروع بأن تكون له دولته الخاصّة على الأرض التي عاش فيها طوال قرون، وسقاها بعرق جبينه، ورواها بدماء شهدائه.

 

فمن قلوب مؤمنة بالسلام والأخوّة فليرتفع نشيدُ المجد والشكر للثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

 

موقع بكركي.