عظة البطريرك الراعي - عيد سيدة التلّة

متفرقات

عظة البطريرك الراعي - عيد سيدة التلّة

 

 

 

 

عظة البطريرك الراعي - عيد سيدة التلّة

 

 

"ها منذُ الآن تطوِّبني جميع الأجيال، لأنَّ القدير صنع لي العظائم" (لو1: 46 و49)

 

فخامة الرئيس،

 

1. دير القمر، عاصمة لبنان التاريخيّة، ومدينة الأمراء المعنيّين والشهابيّين، تبتهج اليوم بحضوركم على رأس المصلّين الوافدين ككلّ سنة لتكريم سيّدة التلّة العجائبيّة في عيدها، وهي شفيعة دير القمر والدّيريّين الذين ينظرون إليها كأمّ حنون ترافقهم حيثما حلّوا. وأنتم بذلك تحيون تقليدًا يرقى إلى سنة 1936، عندما حدّد راعي الأبرشيّة آنذاك المثلّث الرحمة المطران أغسطين البستاني، ابن دير القمر، عيد سيّدة التلّة في الأحد الأوّل من شهر آب، ثمّ جعله في سنة 1948 عيدًا رسميًّا وطنيًّا، بدأه المغفور له الشيخ بشاره الخوري رئيس الجمهوريّة آنذاك، وثبّته من بعده المغفور له الرئيس كميل شمعون، وحافظ عليه الرؤساء المتعاقبون، ما عدا في فترة الحرب اللبنانيّة. وها أنتم، فخامة الرئيس، تواصلون هذا التقليد مشكورين، بعد فراغ سدّة الرئاسة لمدّة سنتين ونصف.

 

2. إنّ المؤمنين المحيطين بكم، وعلى رأسهم سيادة السفير البابوي ومطران أبرشيّة صيدا الجديد، سيادة أخينا المطران مارون العمّار، والسادة الاساقفة، والرئيس العام الجديد للرهبانيّة المارونيّة المريميّة قدس الأباتي مارون الشّدياق، والرّسميّون من وزراء ونوّاب وإداريين، والآباء أبناء الرّهبانيّة الذين يخدمون رعيّة دير القمر، جيلًا بعد جيل منذ مئتين واثنتين وسبعين سنة، وتحديدًا منذ سنة 1745، وصولًا إلى الأباتي الغيور مرسيل أبي خليل الرئيس العامّ الأسبق خادمها ومعاونيه، يصلّون كلّهم من أجلكم، كي يعضدكم الله ومعاونيكم في قيادة سفينة الوطن، بشفاعة أمّنا مريم العذراء سيّدة التلّة، ويزيّنكم بالحكمة والرّوح الرئاسيّ، لتواجهوا التحدّيات الكبيرة: قيامَ الدولة بمؤسّساتها وإداراتها المحرَّرة من التدخل السياسيّ والتمييز اللوني في التوظيف خلافًا لآليّة مبنية على الكفاءة والأخلاقيّة؛ إحياءَ اقتصاد منتج يُنهضه من حافّة الانهيار، ويرفع المواطنين من حالة الفقر، ويفتح المجال أمام الشباب لتحفيز قدراتهم، ويحدّ من هجرتهم؛ تعزيز التعليم الرسميّ والخاصّ والمحافظة على المدرسة الخاصّة المجانية وغير المجانية وإنصافها ومساعدة الأهالي في حريّة اختيارها؛ حماية المالية العامّة بإيقاف الهدر والسّرقة والفساد، وحفظ التوازن بين المداخيل والمصاريف ضمن موازنة واضحة ومدروسة، وضبط العجز والدَّين العامّ؛ بناء قضاء شريف حرّ ومسؤول يكون حقًّا وفعلًا أساس الملك؛ الإسراع في تطبيق اللامركزيّة الإداريّة، المناطقيّة والقطاعيّة.

 

3. "ها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال" (لو1: 46). هذا النشيد-النبوءة فاهت به مريم، بوحي من الرّوح القدس، في بيت زكريا وإليصابات عندما زارته فور بشارة الملاك جبرائيل لها، بأنّها، وهي عذراء، ستحبل بقوّة الرّوح القدس وتلد ابنًا تسمّيه يسوع. وهذا المولود منها قدّوس، وابنَ الله يُدعى (لو1: 31 و35).

 

ها نحن اليوم هنا، عبر مسيرة الأجيال، نطوّب مريم، ونعظّم الله معها على ما أجرى فيها من عظائم: الحبلَ بها معصومة من الخطيئة الأصليّة؛ أمومتَها لابن الله وهي عذراء، مع بقائها بتولًا قبل الميلاد وفيه وبعده؛ تربيتَها، مع يوسف البتول زوجها بحسب الشريعة، الإله المتجسّد منها ليكون فادي الإنسان ومخلّص العالم؛ مشاركتَها الإيمانيّة والفعليّة في تحقيق تصميم الله الخلاصيّ، كشريكةٍ في الفداء بقبولها سيف الألم يجوز قلبها؛ أمومتَها للكنيسة، جسد المسيح السرّي، ولكلّ إنسان، وهي أمومة شاملة قبلتها من إبنها يسوع من على الصّليب (يو 19: 26- 27)، وثبّتها حلول الرّوح عليها وعلى التلاميذ يوم العنصرة (أعمال 15: 12- 14؛ 2: 1- 4)؛ وأخيرًا انتقالَها إلى السّماء بالنفس والجسد، وتتويجَها من الثالوث القدّوس ملكة السّماء والأرض.

 

4. لهذا، أطلقت مريم نشيدها النّبوي: "تعظّم نفسي الربّ، وتبتهج روحي بالله مخلّصي، لأنّه نظر إلى تواضع أمته". إبتهجت، لأنّ الله اختارها أمًّا ليسوع المخلّص؛ وعظّمت الله القدير الذي أظهر قدرته فيها، وهي الخادمة المتواضعة، التي لا شأن لها ولا حسب في المجتمع البشريّ. بل هي من الفقراء الذين لا يتكّلون على خيراتهم وقدراتهم ومالهم وسلطانهم، بل يضعون كلّ ثقتهم وآمالهم بالله، ويترقّبون بالإيمان والرّجاء خلاصه وتجلّيات إرادته، فيما هم ملتزمون بواجب حالتهم. أمّا الذين يعتدّون بنفوسهم ويتّكلون على المال والقوّة والسّلطة والعظمة والنفوذ، فغالبًا ما ينسون الله، ويستغنون عنه، ويحتقرون تعليمه، وينتهكون وصاياه وشريعته، ويخنقون صوته في ضمائرهم، ويرتكبون الشّر والظلم، ويتعدّون على الحياة البشريّة والكرامة والحقوق.

 

5. إنّ دير القمر عظّمت الله بتاريخها الكنسيّ والمدنيّ، الثقافي والسياسيّ، الإنمائيّ والحضاريّ. فيضيق الوقت والمكان عن سرد رجالاتها وتراثها. لكن الديريّين يعزون نجاحات أجيالهم إلى سيّدة التلّة العجائبيّة. فهي لهم كلّ شيء، هي المعبد والمرجع والشفيع والمنقذ والمحامي. فلا سَفرَ بلا وداعها، ولا رجوع بدون زيارتها وشكرانها. الدرزي يؤمن بها كما المسيحيّ، يزورها ويؤدّي لها النذور.

 

6. والديريون يحفظون الجميل والعرفان للرهبانيّة المارونيّة المريميّة وللآباء الذين تعاقبوا على الخدمة فيها. وقد بنوا منذ سنة 1752، قرب الكنيسة، الأنطش لسكن الرهبان، ومدرسة في الأقبية والدكاكين الموقوفة من الستّ أمّون، والدة الامير يوسف المعني. فكانت المدرسة الديموقراطيّة الأولى التي جمعت تحت سقفها طلّابًا من كلّ مذهب، ومن أولاد الأمراء والستّات وأهل البلدة. وظلّت الرهبانيّة وفيّة للخدمة الراعويّة والتربويّة معًا فأنشأت، قرب دير مار عبدا على تلّة دير القمر، مدرسة حديثة وفرعًا لجامعة سيّدة اللويزة، لخدمة أبناء الشّوف جميعًا. فبادلها أهل الدير إخلاصهم ومحبّتهم. والعلامة ما يُروى عن أنّ الأمير الكبير سأل مرّة الرئيس العام آنذاك عن عدد رهبانه، وكانوا دون المئتين، فأجابه: "عددهم أكثر من خمسة آلاف". وإذ أبدى الأمير استغرابه وإعجابه، قال الرّئيس: "لا غرابة، سعادة الأمير، فإنّي أعدّ أهل دير القمر من أبناء رهبانيّتي!". فلتبقَ هذه الروابط متجدّدة جيلًا بعد جيل.

 

7. إلى أمّنا مريم العذراء، سيّدة التلّة العجائبية نرفع صلاتنا، راجين من الله، بشفاعتها، أن يفيض علينا جميعًا نعمه وبركاته، فنجعل من حياتنا وأعمالنا الصّالحة نشيد تعظيم للثالوث المجيد، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

موقع بكركي.