"مذود حقير، واله مخلّص مولود، وبُشرى فرح عظيم" (لو2: 1-20)
1 . بهذه الكلمات الثلاث نختصر رواية ميلاد يسوع المسيح، مخلّص العالم وفادي الإنسان. في مذود حقير وُلد ليعلن نهج التواضع والتّجرد حتى الموت على خشبة الصّليب من أجل خلاص العالم وفداء كلِّ إنسان. ويتركه نهجًا لنا في حياتنا. والمولود هو ابن الله، الذي أرسله الآب ليعلن حبّه ورحمته اللامتناهيَين للعالم. ويدعونا لنفتح قلوبنا لهذه المحبّة الرّحيمة. هذا كلّه بشرى فرح عظيم للشّعوب في أيّة أمّة ومكان وزمان، وقد أعلنها الملاك لرُعاة بيت لحم: "أبشّركم بفرح عظيم، يكون للشّعب كلّه: لقد وُلد لكم اليوم مخلص، هو المسيح الربّ" (لو 2: 10-11). إنّ بُشرى فرح الخلاص موجّهة لكلّ شخص بشريّ من أي دين أو عرق أو لون كان.
2. يُسعدنا أن نحتفل معكم بليتورجيّا ميلاد الربّ يسوع، وأفكارنا وقلوبُنا تتجه إلى مذود بيت لحم حيث تجلّى سرّ الله، الواحد والثالوث، في شخص يسوع المسيح. فهذا المولود، ابن مريم ويوسف الناصريّ، والمسجل هكذا في الإحصاء المسكونيّ، هو في آن ابن الآب وكلمته. إنّه الكلمة الذي كان "منذ البدء عند الله" (يو 2:1)، وصار هو ذاته إنسانًا (يو 14:1) وفيه "ملء الألوهة والنِعمة والحقّ" (يو 14:1؛ كول 9:2)، وبه نلنا الخلاص والمُصالحة والسّلام بدم صليبه (كول 1: 13-14؛ 19-20).
3. ويطيب لي أن أعرب لكم عن أطيب التهاني والتمنيّات بهذا العيد الأساسيّ في حياتنا المسيحيّة وحياة جميع شعوب الأرض. فهو الربّ والمخلّص الوحيد، الذي بتجسّده وموته وقيامته أتمّ تاريخ الخلاص، وفي الوقت نفسه هو مركزه وكماله. ونقولها مع بطرس الرسول: "لا يوجد تحت السّماء اسم آخر غير يسوع المسيح يُعطى للبشر، يمكن أن نخلص به" (اعمال 12:4).
إنّه وسيط الخلاص الوحيد بين الله والبشر. فنعمة الله الخلاصيّة هي ثمرة موته وقيامته ويعطيها دومًا الرّوح القدس بواسطة خدمة الكنيسة المؤتمنة على وسائل الخلاص وهي الإنجيل والأسرار. ويعطيها بطرق يعرفها الله وحده الذي "يريد خلاص جميع الناس وأن يصلوا إلى معرفة الحقيقة" (1 تيم 2؛4). إنّما على الكنيسة، التي وكلت إليها هذه الحقيقة، أن تمضي وتقدّمها للجميع. وبهذه الصّفة هي في حالة إرسال دائم (إعلان "الربّ يسوع"، 21-22).
4. في عيد ميلاد المخلّص وبداية الخلاص تتّجه أفكارنا إلى جميع المخطوفين وبخاصّة العسكريين المأسورين لدى تنظيم داعش، وإلى مطرانَي حلب بولس يازجي وحنّا إبراهيم وسواهم من كهنة ومدنيّين وسائر الأسرى كلّهم يقضون العيد بغصّة كبيرة ومرارة في القلب هم وأهلهم وعائلاتهم. نصلّي إلى المسيح المخلّص والمعزّي أن يثبّتهم بنعمته، ويدبر إطلاق سراحهم وتحريرهم. ولا ننسى النازحين والمهجرين والتائهين على الدّروب وحدود الدول، سائلين الله أن يظلّلهم برحمته ويفتح أمامهم أفق الطمأنينة والسّلام، ويضع على دروبهم رسل خير ومحبّة.
وفي عيد الميلاد، عيد العائلة، نوجّه تهانينا وأمنياتنا أيضًا إلى كلّ بعيد عن عائلته بداعي المرض أو العمل أو الهجرة أو الحرب، وإلى الذين يعيشون في الوحدة والعزلة ويُعانون من إهمال الأقرباء والمجتمع والدولة، وإلى اليتامى الذي يحرمون حنان الأب أو الأمّ. لهؤلاء جميعًا نقول أنّ المسيح بقربكم وهو مِن أجلكم وُلد، ويملأ بحبّه وعزائه وعنايته حياتكم ووجودكم. إنّنا نشكر الله على جميع مبادرات المحبّة التي قامت بها تجاه هؤلاء جميعًا المؤسّسات والجمعيّات والأفراد وطلاب المدارس، سائلين الله أن يُفيض عطاياه في أيديهم، لكي يظلّوا وجه محبّته وحضوره وعنايته.
5. فيما نحتفل بعيد ميلاد يسوع المسيح الربّ، إنّما نحتفل آنٍ بميلاد يسوع التاريخي، وببداية ولادة الكنيسة التي هي جسده السرّي، والمعروفة "بالمسيح الكامل"، حسب تعبير القدّيس أغسطينوس. ميلاد المسيح هو بداية ملكوت الله بين شعوب الأرض. والكنيسة هي علامة ملكوت المسيح وأداته، المؤتمنة على نشره وبنائه في الأرض. ملكوت المسيح هو الإعتراف بزخم الوجود الإلهيّ في التاريخ البشريّ الذي يحوّله ويرقّيه. كما أنّ بنيان الملكوت يعني عمل الرّوح القدس في قلوب البشر وفي تاريخ الشّعوب وفي الثقافات والديانات. ويعني أيضًا العمل في سبيل التحرير من الشرّ بكلّ أشكاله، وتحقيق التصميم الخلاصيّ بكليّته (راجع إعلان "الرب يسوع"، 18-19).
6. لا يستطيع الإنسان أن يعتبر عيد الميلاد، ومعه ميلاد الكنيسة، حدثًا تاريخيًا انتهى في زمانه، أو عيدًا اجتماعيًا يقف عند مقتضياته ومظاهره في الحياة العائليّة والاجتماعيّة والوطنيّة. ولا يستطيع أن يتّخذ حياله موقف اللامبالاة بالنسبة إلى فاعليّته الخلاصيّة المُجدِّدة في حياته الشّخصيّة. هذه اللامبالاة إنّما هي تجاه الله، وكأنّ الإنسان هو خالق نفسه وحياته والمجتمع. فيعتبر نفسه مكتفيًا بذاته وبغنىً عن الكنيسة التي هي أداة الخلاص الشّامل، المؤتمنة على وسائله، أي: إعلان كلمة الله وتعليمها وتثقيف الضمائر من أجل ولادة الايمان، وتوزيع نعم أسرار الخلاص، وبناء الجماعة المسيحيّة حول سرّ القربان، فتشكّل جسد المسيح السرّي الواحد والمتكامل والشاهد للمحبّة والحقيقة، والملتزم ببناء العدالة والسّلام.
7. إنّ موقف اللّامُبالاة تجاه الله وخدمة الكنيسة الخلاصيّة، تتبعه حتمًا اللامُبالاة بالإنسان والأرض والوطن. وهذا ما نشهده في تفشّي روح الأنانيّة والفساد وتدنّي الأخلاق حتى انتهاك حرمة الأشخاص وكرامتهم وفقدان الاحترام لكلّ كبيرٍ وصغير، سواء في التعاطي المباشر، أم عبر تقنيات التواصل الحديثة ووسائل الإعلام. فباتت الحياة الاجتماعيّة فاقدة لجمالها وحسن العيش معًا.
وتتسع اللّامُبالاة لتشمل إهمال الواجب في العائلة: الواجب الزوجي الذي يقضي بإسعاد الواحد الآخر واحترامه والشعور معه؛ والواجب الوالديّ بنقل الحياة البشريّة وفقـًا لإرادة الله، وتربيتها الإنسانيّة والروحيّة والاخلاقيّة والعلميّة. وإهمال الواجب في الكنيسة من رجال الدين والمكرّسين والمكرّسات، وهو أوّلاً واجب مَثَل الحياة والتصرّف، وواجب الخدمة الرسوليّة والشهادة للمسيح ولمحبّته. وإهمال الواجب في المجتمع من قبل المسؤولين الإداريين والمواطنين: واجب احترام القانون والخير العام والمحافظة على البيت المشترك الذي هو الأرض وما توفّر للإنسان من عطايا ومقدرات ليعيش في مناخ بيئي سليم اجتماعيًّا وصحيًّا.
وإهمال الواجب الوطني والسياسيّ: واجب السلطة السياسيّة وهو تأمين كلّ الظروف والأوضاع التّشريعيّة والإجرائية والاقتصاديّة والإداريّة والقضائيّة والأمنيّة لكي يتأمّن الخير العام لجميع المواطنين، وفرص العمل للقوى الحيّة، وتتعزّز محبّة الوطن لدى الأجيال الطالعة.
وواجب الكتل السياسيّة والنيابيّة بمقاربة المبادرة الجديدة والفعليّة الخاصّة بانتخاب رئيس للجمهوريّة بموجب الدّستور والممارسة الديمقراطيّة. فتلتقي هذه الكتل حول المبادرة الجدّية المدعومة دوليًّا، لتدارسها والوصول إلى قرار وطني مسؤول بشأنها، وإهداء البلاد رئيسًا. فلا يمكن بعد اليوم قبول هذا الإهمال الذي لا يشرّف أحدًا. بل هو آخذ في هدم الدولة ومؤسّساتها وقدراتها، وفي إفقار الشعب والتسبب بتهجيره، وفي وضع لبنان على هامش الحياة في الأسرة الدوليّة.
8. مع كل ذلك عيد الميلاد هو عيد الرّجاء، ففي قلب الليل كان نور ولادة المسيح، لذا نرفع صلاة إلى المسيح الإله الذي صار إنسانًا ليرفع الإنسان إلى مرتبة السموّ الإلهي، أن يذكي فينا جميعًا روح المسؤوليّة وأداء الواجب ولتكن حياتنا صدى أنشودة تمجيد لله، الواحد والثالوث، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي.