" يا يوسف، لا تخفْ أن تأخذ مريم امرأتك، فالمولود فيها هو من الرّوح القدس"(متى 1: 20)
1. في بيان الملاك ليوسف، ثلاث حقائق: إستمراريّة زواج يوسف بمريم زواجًا شرعيًّا؛ أبوّته المسؤولة ليسوع؛ قدسيّة الزّواج ومثالية عائلة الناصرة. ففيما كان يوسف خطّيب مريم في حيرةٍ بشأن مكانه في تدبير الله الجديد الذي غيّرَ مجرى مشروعه الزواجي، وراح يُفكّر في إخلاء سبيل مريم الحامل، من دون اللّجوء إلى الطّرُق القانونيّة، حمايةً لكرامة مريم التي يُحبّها ويقدّر فضائلها، تراءى له الملاك في الحلم وقال له: "يا يوسف بن داود، لا تخفْ أن تأخذ مريم امرأتك، فالمولود منها هو من الرّوح القدس" (متى1: 20).
2. يُسعدني أن أحتفلَ معكم، جريًا على عادة أسلافي البطاركة، بعيد القدّيس يوسف في هذا المعهد الزاهر والتاريخي، في عينطورة العزيزة، الذي خرّجَ عشرات الألوف من أجيالنا اللبنانيّة ومئات الشخصيات المعروفة منذ تأسيسه سنة 1834 كمعهد تربوي بعد ان كان ارسالية. وإنّني أحيّي الآباء اللّعازريّين الأحبّاء، وفي مقدّمتهم الرّئيس الإقليمي الأب زياد حدّاد، والآباء القيّمين على هذا المعهد وفي طليعتهم رئيسه الأب سمعان جميل، مع الأسرة التربوية فيه. يجمعنا الإحتفال هذه السّنة بقدامى المعهد مع تكريم الكبار منهم من عمر خمس وسبعين سنة وما فوق. وأثني على ما تقوم به رابطة القدامى من اعمال تواصل ودعم للمعهد وطلابه. فيطيبُ لي أن أحيّيكم جميعًا وأهنّئكم بالعيد، راجيًا أن يفيضَ الله عليكم وعلى عائلاتكم وعلى الجمعيّة وهذا المعهد والأسرة التربويّة كلّ خير ونعمة وبركة، بشفاعة القديس يوسف المؤتمن على الكنزَين يسوع ومريم، مصدرَي النعم الإلهيّة.
3. يكتسب الإحتفال هذه السّنة رونقًا روحيًّا خاصًّا من يوبيل مرور أربعماية سنة على موهبة القدّيس منصور دي بول الخاصّة، وتأسيس جمعيّة الرسالة، المعروفة بجمعيّة الآباء اللّعازريّين وهي رسالة الكرازة بالإنجيل ومحبّة الفقراء. وقد احتفلنا بقدّاس الشكر معهم ومع الأخوات الراهبات "بنات المحبّة" وسائر أسرة مار منصور الروحيّة، في بازيليك سيّدة الأيقونة العجائبيّة – بيروت في 22 كانون الثاني الماضي. فيأتي اليوبيل لتجديد الانطلاقة بكاريسما القديس منصور وروحانيّته في ظروفنا الحاضرة ومتطلّباتها، من أجل رسالة أوسع في الشهادة لمحبة المسيح.
4. "لا تخفْ، يا يوسف، أن تأخذ مريم امرأتك" (متى 1: 20). بهذا الكلام أكّدَ الملاك ليوسف أنّه زوج مريم الدائم والشّرعي، وهذه هي دعوته الخاصّة بأن يكون رفيق دربها في مسيرة الإيمان لتصميم الله، وشاهدًا لبتوليّتها، وحارسًا لشرفها، وشريكًا في كرامتها السّامية[1].
ومع التّأكيد الصريح أنّ يسوع تكوّن فيها بفعل الرّوح القدس، وأنّ بتوليّة مريم ويوسف في هذا الزواج ظلّت مصونة، فالإنجيليّون يُسمّون يوسف زوج مريم، ومريم زوجة يوسف[2]. ويُسمّون يسوع إبن مريم وإبن يوسف، بداعي العلاقة الزوجيّة التي تربطهما. وبسبب هذا الزّواج الأمين، إستحقّا كلاهما أن يُدعيا والدَي المسيح[3].
في زواجهما الطاهر والنقي، ظهرت طبيعة الزواج وقدسيته. فقبل أن يكون الزواج بحدّ ذاته اتّحاد الاجساد، هو أوّلًا واساسًا "اتحاد الأرواح بلا انفصام"، و"اتّحاد القلوب".
5. "المولود في مريم هو من الرّوح القدس، وتسمِّيه أنت يسوع" (متى1: 20-21). بهذا الإعلان، أكّدَ الملاك أيضًا ليوسف أنّ زواجه بمريم هو المرتكز القانوني لأبوّته الشرعيّة ليسوع. ومريم، مع يقينها بأنّها لم تحمل المسيح بنتيجة علاقة زوجيّة بيوسف، تُسمّيه مع ذلك "أبًا ليسوع"، وهو يضمن له حضورًا أبويًّا مسؤولًا.
لقد انتدبَ الله القدّيس يوسف لأن يقوم مباشرةً بخدمة يسوع، شخصًا ورسالة، بممارسة أبوّته. وبهذه الصّفة، يُشارك في سرّ الفداء العظيم ويُعتبر حقًّا "خادمًا للخلاص"، كما يُسمّيه القدّيس يوحنا فم الذهب[4].
6. تجلّت أبوّة يوسف ليسوع واقعيًّا: في أنّه "جعلَ من حياته خدمة وتضحية في سبيل سرّ التجسّد ورسالة الفداء المرتبطة به؛ ووهب كلّ ذاته وعمله ليسوع وأمّه؛ وحوّلَ مشروع زواجه إلى تقدمة ذاته وقلبه وجميع طاقاته لخدمة "المسيح" المولود في بيته[5]. يوسف بقرار إلهي أُقيم حارسًا لابن الله وأباه في نظر الناس، وتولّى مع أمّه مهمّة تربيته، فكان يسوع خاضعًا لهما، يطيعهما ويؤدّي لهما كلّ الواجبات التي ينبغي على الأبناء أن يؤدّوها لوالديهم[6]. في هذا الجوّ العائلي السليم كان الصبي يسوع "ينمو بالقامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس" (لو2: 52). في هذا الضوء ينجلي سرّ الأبوّة والأمومة في كلّ زواج.
7. إنّنا نصلّي من أجل عائلاتنا، في عيد شفيعها القدّيس يوسف، كي يتوفّر لأولادها الجوّ الملائم لتربيتهم ونموّهم، جسديًّا وعلميًّا وروحيًّا. نصلّي من أجل الوالدين كي يربّوا أولادهم على العيش في الحقيقة والمحبة. فمهمة التربية واجب عليهم جوهري لارتباطه بنقل الحياة إلى أولادهم، وأساسي قبل أن يكون واجبًا على الآخرين، وأوّلي لارتباط الوالدين بأولادهم برباط حبّ فريد، ولا بديل أو غنى عنه فلا يستطيعون تفويضه إلى غيرهم بالشكل المطلق، ولا يحقّ لأحد انتزاعه منهم عنوة[7].
8. إنّ هذا الصرح التربوي الذي يجمعنا في عيد شفيعه القدّيس يوسف، يحمل مع الأهل مسؤوليّة تربية أولادهم، بتوفير جودة التعليم والتربية الروحية والأخلاقية والوطنية. في هذه المدرسة، كما في مثيلاتها، تُصقل شخصيّة الطالب والطالبة بكلّ أبعادها، وتُنمّى مواهبه الخاصّة، ويحقق كلّ واحد فرادته. "من المدرسة يتخرّج مواطنون مسؤولون، ومسيحيون ناشطون، وشهود لقيم الإنجيل"[8].
إنّ العائلة الدموية الصغيرة والأسرة التربوية في المدرسة تهيّئان العائلة الوطنيّة الكبرى. كلّنا يعلم أن الدولة والوطن يكونان غدًا ما تكون أجيال اليوم. أليس ما بلغ إليه حاليًّا مجتمعنا اللبناني والدولة مرتبطًا بكيفيّة تربية الأجيال في العائلة والمدرسة والجامعة؟ إنّه سؤال مطروح على ضمائرنا!
9. لكنّنا في كلّ حال، نطالب الجماعة السياسيّة والمسؤولين عن الشَّأن العام: إخراج الدولة والإدارة العامّة من حالة الاستتباع الحزبي والسياسي والطائفي والمذهبي، والولاء "للزعيم" بدلًا من الولاء للدولة ولمصلحة المواطنين؛ بوضع حدّ لممارسات الفساد والإفساد والرشوة والمحسوبيّة، والتطاول على العدالة والقانون، وحماية المتطاولين؛ بإعادة السلطة والهيبة إلى الدولة؛ بإحياء المؤسّسات العامّة على يد موظّفين مميَّزين بالكفاءة والجدارة والإنتاج، وتطبيق قاعدة الثواب والعقاب.
9. لقد شهدنا تعثّر الحكومة والمجلس النيابي في إقرار الموازنة وسلسلة الرتب والرواتب. ورأينا كلّنا أن الفساد الطاغي والعبث بالمال العام، سرقةً وهدرًا وإنفاقًا أوضاعيًّا ومقوننًا، تسبّبا بهذا التعثّر. كيف يمكن إقرار الموازنة من دون إصلاحات إدارية وماليّة تضبط واردات الخزينة، والجباية ومرافق الدولة، بهدف خفض العجز واحتوائه، وتعزيز النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة؟ وكيف يمكن إقرار سلسلة الرتب والرواتب، وهي واجبة بفرض ضرائب على المواطنين المرهقين، من أجل تأمين المال لتغطية موظَّفي القطاع العامّ، بدلًا من إعادة المال العام المهدور إلى خزينة الدولة، ومن دون أيّة مساعدة ماليّة للأهل كي يتمكّنوا من واجب تعليم أولادهم في المدارس الخاصّة، إذ تصبح زيادة الأقساط واجبة؟
العائلة الوطنية بحاجة إلى مسؤولين يكونون على مستوى المسؤولية الخطيرة، مسؤولين يتميّزون بالتجرّد والضمير الحيّ والأفكار الجديدة وجرأة القرار.
على هذه النيّة نصلّي اليوم. فليس عند الله أمر عسير. له المجد إلى الأبد، آمين.
* * *
[1] راجع"حارس الفادي" للبابا القديس يوحنا بولس الثاني، الفقرة 20.
متى 1: 16، 18-20، 24؛ لو1: 27؛ 2:7.[2]
[3] حارس الفادي، 7.
[4] المرجع نفسه، 8.
[5] الطوباوي البابا بولس السادس، خطاب 19 آذار 1966.
[6]البابا لاوون الثالث عشر: في كرامة القديس يوسف. راجع حارس الفادي، الفقرة 8.
[7]الإرشاد الرسولي للبابا يوحنا بولس الثاني: وظائف العائلة المسيحية، 36.