"حينئذٍ يتلألأ الأبرار كالشَّمس في ملكوت أبيهم" (متى 13: 43).
فخامة الرئيس،
1. يسعدني أن أحيّيكم وأهنّئكم بعيد القدّيس شربل، بالأصالة عن نفسي وباسم سيادة السفير البابويّ وسيادة راعي الأبرشيّة وقدس الرّئيس العامّ للرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة الجليلة، والآباء المدبِّرين العامِّين، والأباتي رئيس الدَّير وجمهوره، والآباء الكهنة الجدد الخمسة المحتفلين معًا، وهذا الجمهور من الرسميِّين والمؤمنين، وبينهم السيّدة لينا عنّاب، وزير السياحة الأردنيّة مع مدير عامّ هيئة تنشيط السياحة، والمدير المسؤول عن السياحة الداخليّة، وهم في زيارة سياحيّة خاصّة إلى لبنان.
ويطيب لنا أن نحتفل مع فخامتكم بعيد القدِّيس شربل، ونحن قرب ضريحه المقدَّس في هذا الدَّير المبارك الذي عاش فيه ستّ عشرة سنة، قبل أن ينتقل عام 1875 إلى محبسة مار بطرس وبولس على تلّة عنايا حيث قضى ثلاثًا وعشرين سنة في التقشّف والتأمّل والعزلة، بعيدًا عن كلّ الناس وحاملًا الجميع في صلاته واتّحاده الكامل مع الله، حتى وفاته بعمر سبعين سنة، ليلة عيد ميلاد ابن الله على أرضنا في 24 كانون الأوّل 1898. فإذا بالنور المشعّ من قبره، طيلة الأسبوع الأوّل، الذي رآه أهل القرية في كلّ ليلة، كان العلامة الناطقة لتحقيق كلام المسيح الربّ في شخصه: "حينئذٍ يتلألأ الأبرار كالشَّمس في ملكوت أبيهم" (متى 13: 43).
2. لقد كان نورُه متلألئًا في داخله، معروفًا من الله، ومحجوبًا عن عيون البشر، تمامًا كالمسيح الإله، الذي كان في آنٍ: في السماء مشعًّا في مجد ألوهيّته، وعلى الأرض محتجبًا وراء أغشية بشريّته. وما يزال إلى الأبد مشعًّا بملكوته على عرش السماء، ومحتجبًا تحت شكلَي الخبز والخمر في سرّ القربان. في كنيسة الأرض، القدّيس شربل يكرَّم على المذابح وفي المزارات والبيوت، وفي كنيسة السماء، يتلألأ بين القدّيسين كالشَّمس في ملكوت الآب.
3. هذا التلألؤ هو انعكاس لنور المسيح الذي قال عن نفسه: "أنا نور العالم" (يو9: 5). لكنّه يريد أن ينعكس نوره في كلّ شخص من خلال أعماله الصّالحة، موصيًا: "فليضئ نوركم أمام الناس، ليروا أعمالك الحسنة، ويباركوا أباكم الذي في السّماء" (متى 5: 16). هنا تكمن قيمة الحياة والمسؤوليّة التي يحملها كلّ واحد وواحدة منّا. والمسيح يؤيّدنا بنوره السّاطع فلا تتغلّب علينا ظلمة الشّر والباطل، ولا ظلمة الأنانية والمصالح الخاصّة والفئوية، ولا ظلمة الحقد والنزاع.
4. شئتُم، فخامة الرّئيس، أن تشاركوا في هذه الليتورجيّا الإلهيّة، إكرامًا للقدِّيس شربل في عيده، وأنتم في بدايات السّنة الأولى من عهدكم الرّئاسي الذي نرجوه طويلًا وناجحًا وسلاميًّا. فإنّا معكم نضعه تحت شفاعة قدّيس لبنان الأمثل. ونسأله أن يستمدّ لكم من الله كمال الحكمة والقوّة لحسن تدبير شؤون البلاد. فالكلّ يتطلّع إليكم بكثير من الأمل، لكونكم الرّئيس الموكولة إلى عنايته الشاملة حماية الوطن والشعب والمؤسّسات، في ظروف صعبة، داخليّة وخارجيّة، تقتضي جهودًا وتضحيات، أنتم لها مع أصحاب الإرادات الطيّبة، والمسؤولين المتحلَّين بالتجرّد والكفاءة وروح التفاني من أجل الخير العامّ.
5. نحن ندرك نواياكم الطيِّبة وأمنياتكم الكبيرة. إنّ ما يشدِّد الشعب في الصمود والأمل بالإنفراج، إنّما هو يقينه من أنّكم تتحسَّسون معاناته الإقتصاديّة والمعيشيّة والأمنيّة والإجتماعيّة وهموم المستقبل، وهي تتزايد وتكبر بوجود مليونَي لاجئ ونازح ينتزعون لقمة العيش من فمه، ويرمونه في حالة الفقر والحرمان، ويقحمون أجيالنا الطالعة على الهجرة. فمع تضامننا الإنسانيّ مع هؤلاء اللاجئين والنازحين، يرجو اللبنانيون من فخامتكم تصويب مسار عودتهم الأكيدة إلى بلدهم، بعيدًا عن الخلافات السياسيّة التي تعرقل الحلول المرجوّة.
ويدرك الشّعب اللبناني كم تتحسّسون رفضه اللاإستقرار السّياسي والممارسة السياسيّة الرّاميّة إلى المصالح الشخصيّة والفئويّة على حساب الخير العامّ؛ وإدانتَه الفساد المستشري، والتسابق المذهبيّ إلى الوظائف العامّة بقوّة النّفوذ، وفرض الأمر الواقع، خلافًا لروح الدستور والميثاق الوطني والتقليد، ولقاعدة آليّة التعيين وشروطه. وكأنّ مقدّرات الدولة بمؤسّساتها ومالِها العام، باتت للتقاسم والمحاصصة، من دون أيّ اعتبار لتعاظم الدَّين العام الذي يتآكل الدولة من الداخل، ويحدّ من قدراتها على النهوض الإقتصاديّ والإنمائيّ، وعلى توفير الخدمات الإجتماعيّة الأوليّة والأساسيّة للمواطنين.
6. أن نثير هذه المواضيع في حضرة القدّيس شربل، فلأنّه يحمل، بصلاته وتشفّعه، لبنان، كيانًا وشعبًا ورسالة. هذا المواطن السماويّ هو لبنانيّ. ففي أرض لبنان زرعه الله حبّة حنطة عرف كيف يحافظ عليها بالصّلاة والنعمة، وسط زؤان الخطيئة والشّر والأشرار، فأثمرت الحبّة مئة.
لقد نما، كما تنمو حبّة الزرع، في خطّ تصاعدي، بدءًا من بقاعكفرا بتربية بيتيّة وبيئية متأصّلة في الصلاة والإيمان والممارسة الدينيّة حتى عمر ثلاث وعشرين سنة؛ وصولًا إلى رحاب الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، حيث نال تربيته الروحيّة واللاهوتيّة، في دير مار قبريانوس ويوستينا كفيفان، على يد معلّم نقل إليه اللاهوت وعلّمه القداسة، وتبعه فيها، وهو الأب القدّيس نعمة الله الحرديني؛ ثمّ في دير مار مارون-عنايا، حيث راح ينمو ويرتقي سلّم فضائل الإيمان والرّجاء والمحبّة وما يتّصل بها، ويختمر بعيش المشورات الإنجيليّة الطاعة والعفة والفقر نذورًا حافظ عليها بدقّة بطوليّة، حتى مسحت وجهه ببهاء الجمال الإلهيّ.
وأخيرًا بعمر سبع وأربعين سنة صعد إلى المحبسة، صعود الربّ يسوع إلى جبل الجلجلة، حيث تماهى معه ذبيحةَ ذات بالتقشّف والصّوم والتأمّل والصّلاة والانتصار على تجارب الشيطان ومحنه، حتى الممات. فتجلّى، بذاك النور المشعّ من قبره، تجلّي الربّ على جبل طابور. لقد عاش، في اتّحاده الكامل بالله، بين صليب الجلجلة وبهجة طابور، فوق تلك القمّة، بعيدًا عن أنظار جميع الناس.
7. أجل، لقد أثرنا شؤوننا الزمنية في حضرة قدّيس لبنان، للتشفّع وللتشبّه. نستشفعه ملتمسين النِّعم الإلهيّة كي نبني وطننا ودولتنا بكلّ جوانبها، حفاظًا على وجودنا ورسالتنا في محيطنا ووسط الأسرة الدوليّة. ونلتزم التشبّه به من أجل خلاص نفوسنا، وحسن القيام بواجبات الحالة والمسؤوليّة الخاصَّتَين بكلّ واحد وواحدة منّا.
فالله، في ضوء إنجيل اليوم، لا يريد أحدًا منّا زؤانًا يُحرَق في أتّون النار، بل قمحًا يصبح خبزًا على مائدة الحياة. ويريدنا بذلك "أبرارًا يتلألأون كالشَّمس في ملكوت الآب" (متى 13: 43)، منشدين المجد والتسبيح للثالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي.