"هو يعمّدكم بالروح القدس والنار"(لو 3: 16)
1. تحتفل الكنيسة اليوم بذكرى معموديّة يسوع على يد يوحنا المعمدان في نهر الأردن، وهي معروفة بعيد الغطاس، وتذكّرنا بمعموديّتنا. في مناسبة معموديّته ظهر سرّ الله الواحد والثالوث، واعتلنت بنوّة يسوع الإلهيّة، فيُسمَّى هذا الظهور "بعيد الدِّنح". إنّه عيد واحد بوجهَين: المعمودية-الغطاس والظهور الإلهي-الدِّنح. في هذا العيد نقيم رتبة تبريك الماء الذي يُرشّ على رؤوسنا، ونأخذه إلى بيوتنا لتبريك الأشخاص والأشياء التي نستعملها. وبهذا رمز من جهة للبركة الإلهيّة، ومن جهة ثانية لدعوتنا إلى التوبة وغسل قلوبنا وتنقيتها من كلّ شوائب السوء.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيّا الإلهيّة. فأرحّب بكم جميعًا وأهنّئكم بالعيد، الذي هو خاتمة الأعياد الميلاديّة، وأتمنّى لكم أن نحافظ كلّنا على مفاعيل المعمودية فينا، وأن "نُظهر" وجه المسيح من خلال أقوالنا وأفعالنا ومبادراتنا ومواقفنا في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة.
3. عندما كان الناس يتساءلون عمّا إذا كان يوحنا المعمدان هو المسيح المُنتظَر، شهد يوحنا "أنّه ليس المسيح"، فهو يعمّد فقط بالماء للتوبة، أما المسيح الآتي "فيعمّدكم بالروح القدس والنار" (لو3: 16).
إنّ كلام يوحنا كلام نبويّ، إذ يبيّن فعل الروح القدس في المعمودية التي ينشئها يسوع المسيح ويسلّم خدمتها للكنيسة، مشبِّهًا إيّاه بالنار.
فكما النار تطهّر وتزيل الشوائب، كذلك معمودية يسوع تزيل خطايا البشر بقوّة أكبر بكثير من معموديّة يوحنّا. قوّة النار التطهيريّة أعلى بكثير من قدرة الماء على ذلك. النار تترك أثرًا لا يُمحى. أما أثر الماء فيزول بعد حين.
وكما النار تنير مكانها، كذلك المعموديّة تُدخل الإنسان في الكنيسة، الأمّ والمعلّمة. فلن يضيع إذا التزم تعاليم وإرشادات كنيسته. كما أنّ الروح القدس الذي فينا يذكّرنا ويفهّمنا ويرشدنا إلى ما يجب أن نقوم به.
وكما النار تدفئ وترمز إلى وجود الأحباء من حولنا، الذين يملأون حياتنا دفئًا، كذلك المعموديّة تدخلنا في جماعة المؤمنين، فنصبح معهم إخوةً. لسنا بعد الآن وحدنا، لإنّ الله الذي يتبنّانا في المعموديّة يرافقنا في كلّ خطوات حياتنا ويحمينا.
لذا، نشاهد في الرتبة وضع ثلاث جمرات في الماء مع الدعوة، باسم الثالوث القدّوس، لتطهيره وتنقيته وتقديسه.
4. أمّا عنصر الماء في معموديّتنا فتبقى له رمزيّته. إنه يرمز إلى العنصر الذي يعطي الحياة. هكذا من ماء العماد المكرّس بصلاة حلول قوّة الروح القدس عليه، يولد المعمّدون ثانيةً أبناءً وبناتٍ لله من "الماء والرّوح"، كما قال الربّ يسوع لنيقوديموس (يو3: 5). وفوق ذلك، إن النزول في الماء المبارك والخروج منه أو سكبه على الرّأس ثلاث مرّات في الحالتَين يعنيان ويحقّقان الموت عن الخطيئة والقيامة لحياة جديدة في شركة الثالوث القدّوس، على صورة سرّ المسيح الفصحي، سرّ موته عن خطايانا، وقيامته لتقديسنا (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1238- 1239).
5. إن عيد الغطاس وهو ذكرى معموديّة يسوع، يُذكّرنا بمعموديّتنا، وبما أجرى الروح القدس فينا بقوّته الناريّة وبالماء الذي جعله حشًا مقدّسًا نولد منه ثانيةً أبناءً وبناتٍ لله. يومها لبسنا الثّوب الأبيض الذي يرمز إلى كوننا "لبسنا المسيح" على ما كتب بولس الرّسول: "أنتم الذين اعتمدتُم بالمسيح، قد لبستُم المسيح" (غلا 3: 27). فمن واجبنا المحافظة على ثوب النعمة هذا. وعندما نلطّخه بخطايانا، نعيد إليه بهاءه بواسطة سرّ التّوبة، الذي هو بمثابة معمودية ثانية، وقد أسّسه المسيح الربّ لهذه الغاية. ويومها رافقتنا الشّموع المضاءة التي تعني أنّنا استنرنا بالمسيح، وينبغي أن نظلّ مستنيرين بنور شخصه وكلامه وآياته وأعماله ومواقفه.
6. أما الدنح أو الظهور فتحقّق عندما اعتمد يسوع، إذ سار مع الخطأة كأنّه واحد منهم، فيما هو البارّ القدّوس الذي لم يقترف خطيئة. فالحدث الذي جرى أظهر أنّه فعل ذلك تضامنًا معهم بكثير من الرحمة، ليحمل خطاياهم ويفتديها بموته وقيامته. وسيشهد له يوحنا في الغد أنّه "حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم" (يو1: 29).
في الواقع "عندما اعتمد يسوع وهو يصلّي انفتحت السماء" (لو3: 21). التي هي بيته، ومنها أتى إلى أرضنا، ويفتح أبوابها ببراءته وصلاته. وعلّمنا أن الصلاة هي المفتاح الفعّال لباب السماء، وأنّها الصلة الحقيقية مع الله، عندما تكون صادرة من القلب لا من الشفاه.
"ونزل عليه الروح القدس" (لو3: 22) الذي ملأ بشريّته قوّة وشجاعة، وأظهر ملء قداسته. فبشريّته متّحدة بألوهيّته في شخصه الظاهر للعيان، والمعروف باسم يسوع المسيح.
"وجاء صوتٌ من السماء يقول: أنت هو ابني الحبيب، بك رضيت" (لو3: 22).
يُعلن الله بنوّة يسوع، والرضى به، إذ يجد فيه الآب السعادة والاطمئنان. ليس يسوع مجرّد نبيّ ولا أيّ شخص آخر كان الشعب ينتظره. بل يتخطّى كلّ التوقّعات. إن الله يفاجئنا كلّ يوم بعظمة ما يحقّقه لنا وفينا. فهو الأكرم، بل الكرم بالذات. أعطانا ذاته ومات من أجلنا، مقدّمًا لنا جسده طعامًا ودمه شرابًا حقًّا.
لقد سمع الشعب كلّه هذا الصوت. إن سماع صوت الله شرط أساسيّ للإيمان. الله يكلّم كلّ واحد وواحدة منّا باستمرار. إذا لم نسمع صوته، لا نفعّل معموديّتنا. يمكننا أن نسمع صوت الله بشكل أساسيّ في الصلاة والتأمّل، حين أصمت أنا يتكلّم الله. أسمعه في الكتاب المقدّس وفي الكنيسة المعلّمة، وفي كلّ شخص أجتمع به باسم المسيح، فيكون هو حاضر بيننا. ما أجمل أن نردّد في صباح كلّ يوم، وقبل اتّخاذ أي قرار أو موقف، كلمة الفتى صموئيل: "تكلّم يا ربّ، فإنّ عبدك يسمع" (1صم3: 10).
هذا الدعاء يحتاج إليه كلّ مسؤول في العائلة والكنيسة والدولة. فعندما يسمع ما يقوله له الله في قرارة نفسه، لا يتصرّف إلّا في ما هو حقّ وعدلٌ وخير. وعندئذٍ يقوم بواجب المسؤولية، ويؤمّن الصالح العام الذي منه خير الجميع وخير كلّ شخص، ويزيل الخلافات، ويحلّ النزاعات، ويبني السلام على أسسه الأربعة: الحقيقة والعدالة والحرية والمحبة.
نسأل الله أن يمنحنا نعمة السماع لكلامه الذي هو "روح وحياة". فننشد بأفعالنا ومواقفنا المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.