عظة البابا احتفالا بعيد تقدمة الرب إلى الهيكل

متفرقات

عظة البابا احتفالا بعيد تقدمة الرب إلى الهيكل

 

 

 

تُظهر ليتورجيّة اليوم يسوع وهو ذاهب للقاء شعبه. إنَّه عيد الالتقاء: حداثة الطفل تلتقي بتقليد الهيكل. الوعد يتمّ؛ مريم ويوسف، الشابّين، يلتقيان بسمعان وحنّة، المسنّين. الكلّ يلتقي، باختصار، عند مجيء يسوع.

 

 

 

ماذا يعني هذا لنا؟ بادئ ذي بدء، نحن أيضًا مدعوّون لاستقبال يسوع الذي يأتي للقائنا. لقاء يسوع: يجب أن نلتقي بإله الحياة كلّ يوم من حياتنا؛ لا "في بعض الأحيان"، إنما كلّ يوم. فاتّباع يسوع ليس قرارًا يُتخذ نهائيًا، إنّه خيار يوميّ. ولا يمكننا أن نلقى الرَّبّ بشكلٍ افتراضيّ، بل مباشرة، عبر لقائه في حياتنا، في حياتنا الملموسة. وإلّا فيصبح يسوع مجرّد ذكرى جميلة من الماضي. لكن عندما نستقبله كربّ حياتنا، ومحور كلّ شيء، كقلب النابض لكلّ شيء، فإنّه يُحيي، ويحيا فينا. ويحدث لنا ما حدث في الهيكل: كلّ شيء من حوله يلتقي، وتصبح الحياة متناغمة. مع يسوع، نجد الشجاعة للمضيّ قُدمًا والقوّة للثبات. اللقاء بالربّ هو المنبع. ومن المهمّ العودة إلى المنبع: نعود بالذاكرة إلى اللقاءات الحاسمة معه، من أجل إحياء الحبّ الأوّل، وربّما كتابة قصّة الحبّ التي تجمعنا بالربّ. فسوف تفيد للغاية حياتنا المكرّسة، حتى لا تصبح وقتًا يمرّ، إنّما وقت لقاء.

 

 

 

إذا استعدنا ذكرى لقائنا الأساسيّ مع الربّ، فسوف ندرك أنّه لم ينشأ كمسألة خاصّة بيننا وبين الله، كلّا، لقد نبت وسط شعب الله المؤمن، إلى جانب الكثير من الإخوة والأخوات، في وقت ومكان محدّد. يقوله لنا الإنجيل، مبيّنًا كيف يتمّ اللقاء في شعب الله، في تاريخه الملموس، في تقاليده الحيّة: في الهيكل، وفقًا للشَّريعة، في مناخ النبوّة، مع الشبّان والمسنّين معًا (لو 2، 25- 28. 34). هكذا هي أيضًا الحياة المكرّسة: تنبت وتزهر في الكنيسة؛ وإذا انعزلت تذبل. وهي تنضج عندما يسير الشبّان والمسنّين معًا، عندما يجد الشبّان الجذور ويقبل المسنّون الثمار. وإلّا فهي تركد عندما نسير بمفردنا، عندما نبقى نحدّق بالماضي أو نتقدّم محاولين الاكتفاء بمتابعة الحياة وحسب. اليوم، عيد اللقاء، لنطلب نعمة إعادة اكتشاف الربّ الحيّ، في المؤمنين، وجعل الموهبة التي نلناها تلتقي مع نعمة اليوم.

 

 

 

يقول لنا الإنجيل أيضًا إنَّ لقاء الله بشعبه له بداية وهدف. يبدأ من الدّعوة إلى الهيكل ويصل إلى الرؤية في الهيكل. الدّعوة هي ذات شقّين. هناك دعوة أولى "وفقًا للشريعة" (آية ٢٢). هي دعوة يوسف ومريم، اللذان يذهبان إلى الهيكل ليتمّما ما تنصّ عليه الشريعة. والنصّ يؤكّد عليه أربع مرّات وكأنّه لازمة (آيات 22. 23. 24. 27). إنّه ليس قيدًا: فلم يذهب والدَيّ يسوع قسرًا أو كي يستوفيا مجرّد واجب خارجيّ؛ لقد ذهبا استجابة لدعوة الله.

 

 

 

ثمّ هناك دعوة ثانية، وفقًا للرُّوح. هي دعوة سمعان وحنّة. وقد أشير أيضًا إليها بإصرار: لثلاث مرّات، يُذكر الرُّوح القدس متحدّثًا عن سمعان (آيات 25. 26. 27) وينتهي مع النبيّة حنّة، التي ألهمها الله (آية 38). أسرع الشابّان إلى الهيكل إذ تدعوهما الشريعة؛ والشيخان إذ يدفعهما الروح. هذه الدعوة المزدوجة، من قِبَلِ الشريعة وبدفع الرُّوح، ماذا تقول لحياتنا الروحيّة ولحياتنا المكرّسة؟ بأنّنا جميعًا مدعوّون إلى طاعة مزدوجة: للشريعة -أي ما ينظّم حياتنا- وللرُّوح، الذي يصنع أشياء جديدة في حياتنا. هكذا يولد اللقاء مع الربّ: الرُوح يكشف الربّ، ولكن كي نستقبله، فمن الضروريّ الثبات المستمرّ يوميّا. حتى أعظم المواهب، دون حياة منظّمة، لا تؤتي ثمارها. من ناحية أخرى، فإن أفضل القوانين لا تكفي دون حداثة الرُّوح: فالشريعة والرُّوح يتماشيان.

 

 

 

وكي نفهم بشكل أفضل هذه الدّعوة التي نراها اليوم في الأيّام الأولى من حياة يسوع، في الهيكل، يمكننا العودة إلى الأيّام الأولى من خدمته العلنيّة، في قانا، حيث حوّل الماء إلى خمرة. نجد هناك أيضًا الدعوة إلى الطاعة، حيث تقول مريم: "مَهما قالَ لَكم فافعَلوه" (يو 2، 5). مهما قال. وطلب يسوع شيئًا معيّنًا؛ لم يصنع على الفور شيئًا جديدًا، لم يعطِ الخمرة الناقصة من العدم -كان باستطاعته أن يصنع هذا-، ولكنّه طلب شيئًا ملموسًا وصعبًا. طلب بأن يملؤوا ستّة أجران حجريّة كبيرة تُستخدم عادةً في طقوس التطهير، والتي تذكّر بالشريعة. وهذا يعني نقل حوالي ست مئة لتر من الماء من البئر: وقت وجهد، يبدوان عديمي الجدوى، لأنَّ ما كان ينقص لم يكن الماء، إنَّما الخمرة! ومع ذلك، فمن تلك الأجران الممتلئة للغاية بالذات، "إلى أعلاها" (آية 7)، استخرج يسوع الخمرة الجديدة. هكذا هو الأمر بالنسبة لنا: يدعونا الله للقائه من خلال الأمانة لأشياء ملموسة -نلقى الله دومًا في الأمور الملموسة-: الصَّلاة اليوميّة، القدّاس، الاعتراف، المحبّة الحقيقيَّة، كلمة الله اليوميّة، عبر القرب من الآخرين، ولا سيّما من المحتاجين، روحيًّا أو جسديًّا... إنّها أشياء ملموسة، كما هي الطاعة للمسؤول وللقوانين في الحياة المكرّسة. إذا مارست هذا القانون بحبّ -بحبّ-، يأتي الرُّوح ويحمل مفاجأة الله، كما في الهيكل وفي قانا. ثمَّ يحوّل ماء الحياة اليوميّة إلى خمرة الجِدَّة والحياة، والتي تبدو أكثر تقييدًا، وفي الواقع تصبح أكثر حرّية. تأتي إلى ذهني في هذه اللّحظات راهبة، متواضعة، كانت لها موهبة القرب من الكهنة والإكليريكيِّين. وقد افتتحت دعوى تطويبها هنا في أبرشيّة روما قبل يومين. راهبة بسيطة: لم يكن لها أنوار عظيمة، إنّما كانت تملك حكمة الطاعة، والأمانة ولم تكن تخاف من الجِدَّة. لنسأل الربّ أن يعطينا جميعًا، بشفاعة الأخت برناديتا، نعمة اتّباع هذه الدرب.

 

 

 

اللقاء، الذي يولد من الدّعوة، يبلغ ذروته في الرؤية. يقول سمعان: "قَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ" (لو 2، 30). يرى الطفل ويرى الخلاص. إنّه لا يرى المسيح يقوم بمعجزات، ولكن طفلًا صغيرًا. إنَّه لا يرى شيئًا غير عاديًا، بل يسوع مع والديه، يقدّمان إلى الهيكل زَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرخَيْ حَمام، أي التقدمة الأكثر تواضعًا (آية 24). يرى سمعان بساطة الله ويرحّب بحضوره. إنه لا يبحث عن أيّ شيء آخر، فهو لا يطلب شيئًا آخر ولا يريد شيئًا آخر، تكفيه رؤية الطفل وحمله بين ذراعيه: "الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام" (آية 29). فالله يكفيه كما هو. فيه يجد المعنى النهائيّ للحياة. إنّها رؤية الحياة المكرّسة، رؤية بسيطة ونبويّة عبر بساطتها، حيث نبقي الربّ أمام أعيننا وبين يدينا، ولا نحتاج إلى أيّ شيء آخر. فهو الحياة، وهو الرَّجاء، وهو المستقبل. الحياة المكرّسة هي تلك الرؤية النبويّة في الكنيسة: إنّها نظرة ترى الله حاضرًا في العالم، حتى لو كان الكثيرون لا يدركون ذلك. إنَّه صوتٌ يقول: "إنَّ الله يكفي، والباقي يزول"؛ هو تسبيح يتدفّق على الرغم من كلّ شيء، كما أظهرته النبيّة حنّة. كانت امرأة مسنَّة جدًا، عاشت سنوات عديدة كأرملة، ولكنَّها لم تكن مكتئبة، أو في حنين دائم إلى الماضي، أو منغلقة على نفسها. على العكس، تصلّي، تسبِّح الله وتحدّث فقط به (آية 38). يطيب لي أن أفكّر أنَّ هذه المرأة التي كانت "تثرثر كثيرًا"، وضدّ شرّ النميمة قد تكون شفيعة جيّدة كي نتوب، لأنّها كانت تذهب من مكان لآخر وتقول فقط: "هو هذا الطفل! هو هذا الطفل! اذهبوا لرؤيته!". يطيب لي أن أتخيّلها هكذا، مثل امرأة من حينا.

 

 

 

هذه هي الحياة المكرّسة: التسبيح الذي يعطي الفرح لشعب الله، رؤيا نبويّة تكشف عمّا هو مهمّ. وعندما تكون هكذا، تزهر وتصبح دعوة للجميع ضدّ التدنّ: ضدّ التراجع في الحياة الروحيّة، ضدّ تجربة استعادة الأرباح مع الله، ضدّ التكيّف مع حياة مريحة ودنيا، ضدّ التذمّر -التذمّر!-، وعدم الرضا، والنحيب على النفس، ضدّ عادة الـ"نصنع ما نقدر عليه" و"لطالما ما صنعنا هذا": هذه الجمل ليست من الله.

 

 

 

الحياة المكرّسة ليست مجرّد متابعة الحياة، ليست تحضيرًا لـ"فنِّ الميتة الصالحة": إنَّها تجربة اليوم إزاء الافتقار للدَّعوات. كلّا، ليست مجرّد متابعة الحياة، إنَّها حياة جديدة. "لكنَّنا... قليلي العدد..." – إنَّها حياة جديدة. إنَّها لقاء حيّ مع الربّ في شعبه. إنَّها دعوة إلى الطاعة اليوميّة الأمينة وإلى مفاجآت الرُّوح غير المعروفة. إنَّها رؤية لما يجب احتضانه من أجل نوال الفرح: يسوع.

 

 

 

 

 

 

 

عظة قداسة البابا فرنسيس

خلال القدّاس الإلهيّ

بمناسبة اليوم العالمي الثالث والعشرين للحياة المكرسة

السبت 2 فبراير/شباط 2019

بازليك القدّيس بطرس

 

موقع الكرسي الرسولي.