ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة الخامسة من عصر الجمعة رتبة سجدة الصليب في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان لمناسبة الجمعة العظيمة بحضور حشد غفير من الكرادلة والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين، وتخللت الرتبة عظة ألقاها الأب رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي وقد استهلها بالقول "مُحتَقَرٌ وَمَخذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوجَاعٍ وَمُختَبِرُ الحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنهُ وُجُوهُنَا، مُحتَقَرٌ فَلَم نَعتَدَّ بِهِ" إنها الكلمات النبويّة لأشعيا والتي بدأت بها ليتورجية الكلمة اليوم. لكن رواية الآلام التي تلتها قد أعطت اسمًا ووجهًا لرجل الأوجاع السريّ هذا: اسم ووجه يسوع الناصري. واليوم نريد أن نتأمَّل المصلوب بهذه الصورة بالذات: كالنموذج لجميع منبوذي ومحتقري ومهمّشي الأرض.
إنَّ يسوع لم يصبح كذلك الآن في آلامه، ولكنّه كان جزءًا منهم طيلة حياته. ولد في اسطبل لأَنَّهُ لم يَكُن لوالديه مَوضِعٌ في الـمَضافة. وفي تقدمته إلى الهيكل قدّم والداه زوجي حمام التقدمة التي تفرضها الشريعة على الفقراء الذين لم يكن بإمكانهم أن يقدّموا حملاً. وبالتالي فهذه شهادة فقر حقيقيّة في إسرائيل في ذلك الزمن. ونصل إلى الآلام. نجد في الرواية لحظة لا نتوقّف عندها غالبًا ولكنها مفعمة بالمعاني: يسوع في دار بيلاطس. ساقَه الجُنودُ إِلى داخِلِ الدَّار، وأَلبَسوهُ أُرجُواناً، وكَلَّلُوه بِإِكليلٍ ضَفَروه مِنَ الشَّوْك، وربطوا يديه بحبل خشن ووضعوا قصبة في يده كعلامة ساخرة لملوكيّته. "ها هُوَذا الرَّجُل!" أعلن بيلاطس مقدّمه للشعب. كلمة يمكننا استعمالها بعد المسيح لجوق الرجال والنساء المخذولين والمستغلّين والمحرومين من كلِّ كرامة بشريّة؛ لأن يسوع على الصليب أصبح الشعار لهذه البشرية المذلولة والمهانة.
لكنَّ هذا ليس المعنى الوحيد والأهمّ لآلام وموت المسيح. المعنى الأعمق ليس المعنى الاجتماعي وإنما الروحي. بموته خلّص العالم من الخطيئة وحمل محبّة الله إلى أبعد نقطة وأكثرها ظلامًا بلغت إليها البشريّة في هربها منه، أي إلى الموت. كما قلت هذا ليس المعنى الأهمّ للصليب، ولكنّه المعنى الذي يمكن للجميع، مؤمنون وغير مؤمنين، أن يعترفوا به ويقبلوه. فإن كان بواقع تجسّده صار ابن الله إنسانًا وأتّحد بالبشريّة بأسرها، فبالطريقة التي تمّ بها تجسّده صار أحد الفقراء والمرذولين وتبنّى حالتهم؛ وقد أكّد لنا ذلك هو بنفسه عندما أعلن: "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه".
إنَّ الإنجيل في الواقع لا يتوقّف هنا، بل يقول أيضًا شيئًا آخر، يقول إن المصلوب قد قام من بين الأموات. به انقلبت الأطراف راسًا على عقب أصبح المغلوب منتصرًا، والمحكوم عليه أصبح القاضي، "الحَجَرُ الَّذي رَذَله البَنَّاؤون صارَ رَأسَ الزَّاوِيَة". عيد الفصح هو عيد الانقلاب الذي صنعه الله وحققه في المسيح؛ إنّه البداية والوعد للانقلاب الوحيد والصحيح لمصير البشرية. وبالتالي فيا أيها الفقراء والمهمّشون ويا جميع الذين تعيشون أشكال العبودية المختلفة التي يفرضها اليوم مجتمعنا عيد الفصح هو عيدكم.
يحتوي الصليب على رسالة أيضًا للذين يقفون على الضفة الأخرى: للمقتدرين والأقوياء والذين في دورهم كمنتصرين. وهي على الدوام رسالة محبة وخلاص وتذكّرهم أنهم مرتبطون في نهاية الأمر بمصير الجميع؛ وبأنّ الضعفاء والمقتدرين، الضعفاء والطغاة جميعهم يخضعون للقانون عينه وللمحدوديّة البشريّة عينها. إنّ الموت يحذّر من الشرّ الأسوأ بالنسبة للإنسان: وهمُ القدرة. لا يجب أن نعود كثيرًا في الزمن، يكفي أن نفكر مجدّدًا في التاريخ الحديث لنتنبّه لمدى تكرار هذا الخطر وبأنه يحمل الأشخاص والشعوب إلى الكوارث.
لدى الكتاب المقدس كلمة حكمة أزليّة موجهّة لسلاطين هذا العالم: "وأنتم ايها الملوك فاسمعوا... لأنه سيمضي على الحكام قضاء شديد" (الحكمة ٦، ١. ٦)؛ "إِنسَانٌ فِي كَرَامَةٍ وَلَا يَفهَمُ يُشْبِهُ الْبَهَائِمَ الَّتِي تُبَادُ" (مزمور ٤٩، ٢١)؛ "فماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه، وفَقَدَ نَفْسَه أَو خَسِرَها؟" (لوقا ٩، ٢٥). إن الكنيسة قد نالت الوصيّة من مؤسسها بأن تقف إلى جانب الفقراء والضعفاء وبأن تكون صوت من لا صوت له وبفضل الله هذا ما تقوم به ولاسيما من خلال راعيها الأعظم. أما المهمّة التاريخية الثانية التي ينبغي على الديانات أن تأخذها على عاتقها اليوم بالإضافة إلى مهمّة تعزيز السلام، هي مهمّة ألا تبقى صامتة إزاء ما يجري تحت أعين الجميع. قليلون يملكون خيورًا لا يمكنهم أن يستهلكوها وجموع غفيرة من الفقراء لا يملكون قطعة خبز أو جرعة ماء ليعطوها لأبنائهم. لا يمكن لأية ديانة أن تقف غير مبالية لأن إله جميع الديانات لا يقف غير مبال إزاء هذه الأمور.
نعود إلى نبوءة أشعيا التي انطلقنا منها. تبدأ بوصف ذلِّ عبد الله ولكنها تنتهي بتمجيده؛ ويتكلّم الله: "مِن تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشبَعُ... لِذَلِكَ أَقسِمُ لَهُ بَينَ الْأَعِزَّاءِ وَمَعَ العُظَمَاءِ يَقسِمُ غَنِيمَةً، مِن أَجلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلمَوتِ نَفسَهُ وَأُحصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي المُذنِبِينَ". بعد يومين ومع إعلان قيامة المسيح، ستعطي الليتورجية أيضًا اسمًا ووجهًا لهذا المنتصر. لنسهر ونتأمّل خلال هذا الانتظار!
إذاعة الفاتيكان.