نحن في الأحد الأخير من زمن القيامة، وقد سبقه خميس صعود الربّ يسوع إلى السّماء. لا نتأمّل بأحد ترائيه بعد القيامة، بل بالمحبّة التي دفعته إلى ذروتها: فمات من أجل خطايانا وقام لتقديسنا. وبذلك تمجَّد هو في إنسانيّته، وتمجَّد الله به. وترك لنا المحبّة وصيّة جديدة، نعيشها حسب نهجه، بذلًا وعطاء.
بهذا الأحد نختتم شهر أيّار التكريميّ لأمّنا العذراء مريم سيّدة لبنان. وتحتفل الكنيسة باليوم العالمي الحادي والخمسين لوسائل الاتّصال الاجتماعيّ.
وجّه قداسة البابا فرنسيس رسالة، حسب العادة، بعنوان: "لا تخفْ، أنا معك" (أشعيا 43: 5): نقل الرَّجاء والثقة في عالمنا".
أوّلاً، شرح الإنجيل
من إنجيل القدّيس يوحنا 13: 31-35
قالَ يُوحنَّا الرَسُول: لَمَّا خَرَجَ يَهُوذا الإسخريُوطِيُّ قَالَ يَسُوع: «أَلآنَ مُجِّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ ومُجِّدَ الله فِيه. إِنْ كَانَ الله قَدْ مُجِّدَ فِيه، فَالله سَيُمَجِّدُهُ في ذَاتِهِ، وحَالاً يُمَجِّدُهُ. يَاأَوْلادي، أَنَا مَعَكُم بَعْدُ زَمَنًا قَلِيلاً. سَتَطْلُبُونَنِي، ولكِنْ مَا قُلْتُهُ لِلْيَهُودِ أَقُولُهُ لَكُمُ الآن: حَيْثُ أَنَا أَمْضِي لا تَقْدِرُونَ أَنْتُم أَنْ تَأْتُوا. وَصِيَّةً جَديدَةً أُعْطِيكُم، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا. أَجَل، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا كَمَا أَنَا أَحْبَبْتُكُم. بِهذَا يَعْرِفُ الجَمِيعُ أَنَّكُم تَلامِيذِي، إِنْ كَانَ فيكُم حُبُّ بَعْضِكُم لِبَعْض».
1. كلام الربّ يسوع قاله في أقدس وقت، في عشائه الفصحي مع رسله الاثنَي عشر. وهو عشاء المحبّة الذي أسّس فيه سرَّي القربان والكهنوت، من أجل استمراريّة ذبيحة الفداء، ووليمة جسده ودمه لحياة العالم. قاله حالما خرج يهوذا الإسخريوطي من علّية الوليمة ليُسلم يسوع بخيانة في أيدي اليهود. فكانت ساعة الدخول في الآلام والموت والقيامة، كما جاء في الكتب.
2. لقد سمّى يسوع هذه الساعة، المجهولة من رسله، ساعة تمجيده، وتمجيد الله فيه، وتمجيد الله له.
"الآن مُجِّد ابن الإنسان" (الآية 31). سمّى يسوع مجده في طاعته للآب حتى فداء البشريّة وخلاصها بآلامه وموته؛ وفي إتمامه الرسالة الخلاصيّة الموكولة إليه من الآب؛ وفي قيامته الآتية بعد الآلام والموت.
لقد استبق ورأى في صلبه القيامة والمجد. وهكذا أعطى معنى وقيمةً لآلامنا، وطريقة روحية لقراءتها، وقوّة وصبرًا لاحتمالها. فهي تواصل آلام المسيح لفداء العالم.
ويضيف الربّ يسوع أن "الله مُجِّد فيه، وسيمجّده في ذاته، وللحال يمجّده" (الآية 32).
بهذا القول يؤكّد وحدة المجد القائمة بين الآب والابن. فالابن عاش على أرضنا إنسانًا ليمجّد الآب، بطاعته وإتمام مشيئته. ورأى مجده في تمجيد الآب. والله الآب مجّد الابن بالقيامة الظافرة من بين الأموات، واطئًا الموت بالموت. إنّ مجد الآب والابن هو مجد واحد، لأنّهما إله حقّ من إله حقّ، ونور من نور.
3. يتبيّن من هذا المجد الواحد بين الآب والابن أنّ الله الذي نعبده واحد في ثالوثيّته، وبهذا هو محبّة (1يو4: 8). إنّه بالضرورة ثالوث. فالمحبّة لا تكون محبّة حقيقيّة إلّا إذا أحبّت أحدًا في أزليّته. وبما أنّ الله محبّة يجب أن يكون ثالوثًا في طبيعته وجوهره. والله-المحبة يحبّ الإنسان محبّة مجّانية. وبما أنّ المحبة لا تتوقّف بين الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد، كذلك لا تتوقّف محبة الله للإنسان، ولو للحظة واحدة من الزمن.
لقد قَبِل يسوع الآلام والصلب والموت كتجسيدٍ لحبّه للآب، متمِّمًا إرادته الخلاصيّة، ولحبّه لكلّ إنسان من أجل فدائه. ولذلك سيمجّده الآب بالقيامة والانتصار.
4. هذا هو الجديد في وصيّة المحبّة: "أعطيكم وصيّة جديدة: أن تحبّوا بعضكم بعضًا، كما أنا أحببتكم" (الآية 34). الجديد هو نهج المحبة الذي عاشه يسوع، أعني محبة الله بإتمام إرادته في كلّ شيء، ومحبّة كلّ إنسان ببذل الذات والعطاء. "إن أحببتُم مَن يحبّكم، أيّ فضل لكم؟ الخطأة والوثنيّون يفعلون هذا" (متى 5: 46).
المسيحي يتمجّد بهذه المحبة، ويمجِّد الله بها. هذا الحبّ يعكس صورة الله الثالوث على الأرض؛ وهو حضور إلهي يجمع بين الإخوة المتحابّين؛ وهو البشرى السّارة لجميع الناس. المسيحيّون مؤتمنون على حضارة المحبّة، بحكم المعمودية والميرون والقربان. ولذا تسمّى "أسرار التكوين المسيحي".
وصية المحبة قديمة. نجدها في العهد القديم: "أَحببْ الربَّ إلهك بكلّ قلبك وبكلّ نفسك وبكلّ قوّتك. وأَحبب قريبك حبّك لنفسك" (تثنية 6: 5؛ متى 22: 37-40).
أمّا الوصيّة الجديدة فهي الحبّ حتى الصليب، حتى الفداء، حبّ بلا حدود. تأتي في معرض كلام الربّ عن تمجيده الله، وفي مناسبة تأسيس سرَّي القربان والكهنوت، كسرَّي المحبة الظاهرة في ذبيحته ووليمة جسده ودمه، والمطلوبة في محبّة خدمة الكاهن ورسالته. وكما يمجّد المسيحُ الآب بواسطة الصليب، هكذا يمجِّد المسيحي الله والمسيح بواسطة المحبة.
في مساء الحياة سنُحاسَب على هذه المحبة (متى 25: 31-46).
ويختم الربّ يسوع كلامه بتحديد الهويّة المسيحيّة، التي يُعرف بها الشخص أنّه مسيحي: "بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي، إن كان فيكم حبّ بعضكم لبعض" (الآية 35).
* * *
ثانيًا، ختام شهر أيار المريمي: مريم شريكة الفداء
في ضوء محبّة المسيح الظاهرة في آلامه وموته، نقرأ محبّة مريم ومحبّتنا والدور في سرّ الفداء.
1. عاش المسيح-الإنسان العلاقة الصحيحة بين الإنسان والله، وهي علاقة محبّة لا حدود لها. بقبوله الآلام والموت علّمنا أنّ الآب هو مصدر المحبة، وأنّ به تليق المحبة الكاملة. وأظهر أنّه يحبّ الآب محبّة مطلقة. فلا يحتفظ بذاته لذاته، بل يقدّمها للآب على الصليب، للإعراب عن محبّته له. فوجد السعادة والمجد.
نستنتج أنّ الفداء أو الخلاص لم يتمّ بالعذاب بقدر ما تمّ بالحبّ الكامل لله وللجنس البشري.
2. مريم العذراء شاركت في الفداء، وعبّرت عن حبّها لله. فهي بتقديم ذاتها تقدمة كاملة لشخص ابنها وعمله الخلاصي أسهمت في سرّ الخلاص، بإيمانها وحبّها وطاعتها. وظلّت متّحدة بشخص ابنها وعمله ورسالته منذ الحبل البتولي حتى موته على الصليب، مشارِكة بقلب الأمّ في ذبيحته، ومساهِمة في عمل الخلاص بشكل لا مثيل له، بخضوعها وإيمانها ورجائها ومحبّتها الحارّة، كي تعود الحياة الفائقة الطبيعة إلى النفوس (راجع الدستور العقائدي في الكنيسة، 58 و61).
جوهر الفداء هو في الحبّ والثقة المطلقة بالله، وفي بذل الذات كعلامة لهذا الحبّ. مريم العذراء، وإن لم تمت على الصليب، فقد جسّدت في مراحل حياتها كلّها، وبخاصّة على أقدام الصليب، هذا الحبّ وهذه الثقة وهذا البذل بتقديم وحيدها. وكما ساهمت حواء في خطيئة البشر في موتهم، فإنّ مريم ساهمت في فداء البشر وحياتهم، لأنّها أعطتهم الفادي.
3. ونحن أبناء مريم وبناتها، نجسدّ موقفها في حياتنا. نشارك المسيح في عمل الفداء بقبول نعمة الفداء في حياتنا، وبدخولنا في تيّار حبّه، وفي قبول آلام الحياة وصعوباتها ومحنها، ونجعلها تعبير حبّ لله ولخلاص البشر (راجع العذراء مريم، ليوسف بشاره وبولس الفغالي (1990) صفحة 76-80).
صلاة
أيّها الربّ يسوع، لقد مجَّدت الآب بمحبّتك التي بلغت ذروتها على صليب الفداء، فمجّدك الآب بالقيامة والانتصار على الخطيئة والموت. أَشركْنا في نعمة محبّتك، كما أشركْت أمّنا وسيّدتنا مريم العذراء فعاشت وصيّة المحبّة الجديدة بكمال الإيمان والرجاء.
ويا مريم، منذ بشارة الملاك لكِ حتى موت ابنكِ يسوع على الصليب، إتمامًا لإرادة الآب، وفداءً عن البشرية جمعاء، كنتِ متّحدةً اتّحادًا تامًّا معه بالإيمان والرجاء والحبّ، وساهمتِ في عمله الخلاصي، وكنتِ شريكةً سخيّة في عمل الفداء. ساعدينا حتى تنصهر إرادتنا مع إرادة ابنك الفادي، فتشعّ محبّته في قلوبنا، وقلوب جميع الناس. فترتفع منها أناشيد المجد والتسبيح للثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي - التنشئة المسيحية