نصّ التطويبات (متى 5: 1-12) يبدو غريبًا ومحيّرًا جداً لأنّه يريدنا أن نبحث عن السَّعادة على صعيد مختلف بشكلٍ جذريّ عن الذي اعتدنا عليه. لدى شعب العهد القديم، واسمحوا لي بالقول ولنا نحن، لأنّه مع الأسف لا نزال نعيش في العهد القديم، وبالتالي مفهوم السّعادة، مكان السّعادة واضح: الإنسان يكون سعيدًا عندما يكون غنيًا وقادرًا ولديه العديد من الأبناء، بالإضافة إلى الخيرات الأخرى ومتمِّمًا للشريعة وخادمًا لقريبه.
بالطبع القريب هو من يكون من ملّته كما نقول. أبناء شعب العهد القديم، كانوا مقتنعين بأنّ السَّعادة تأتي من الله، وبالتالي عندما يكون هناك إنسان بارّ يعيش في الشقاء ولم يعطِه الله السعادة كان يشكل هذا الأمر صدمة كبيرة لهم! هذا ما نراه لدى أصدقاء أيوب الذين كانوا يحاولون إقناعه بأنَّ ما حصل له هو نتيجة لخطيئة كبيرة ارتكبها. وأيوب رفض بشكل جذريّ هذا التفسير واثقـًا بأنّ الله لا يمكن أن يُنزل المصائب في الإنسان.
لهؤلاء الناس الذين يعيشون في هذا المفهوم للسّعادة يتحدّث يسوع عن الرِّسالة الغريبة للتطويبات: طوبى للفقراء، للحزانى، للجياع والعطاش، للودعاء، إلخ...
في الواقع قبول هذا النوع من الرّسالة ليس أسهل علينا من شعب العهد القديم. فنحن أيضًا نعتقد بأنّنا نكون سعداء عندما نكون ناجحين في الحياة، في ما نقوم به، وعندما نكون مُحترمين ومُقدّرين من قبل الآخرين؛ عندما تُعطى لنا مسؤوليّة مهمّة، وعندما نستطيع القيام بما نحبّه.
يعلّمنا يسوع بأنّنا سعداء إذا كنّا فقراء، جياع وعطاش، عندما نكون وحيدين ومسحوقين، لأنّه أتى لهؤلاء النّاس ولأنّه يلتحق بنا في هذه الظروف. لقد أتى لتكون لنا الحياة وتكون فيّاضة فينا في هذا العالم وفي الآخرة؛ فيض الحياة قبل الموت وليس فقط بعد الموت. ألم يقل لنا بأنّه «كشف لنا ما سمعه من الآب ليكون فرحه فينا ويكون فرحنا تامًّا»؟
لهذا السبب لا يحقّ لنا بأن نفهم التطويبات ونستقبلها على أنّها «مخدّر روحيّ» يساعدنا على تحمّل هموم وصعوبات الحياة الحاضرة بانتظار السَّعادة في الآخرة. كما لو أن يسوع يقول لنا: أنتم سعداء إذا كنتم تموتون جوعًا في هذا العالم، لأنّكم ستشبعون في العالم الآخر... حتما لا! يعلن يسوع بأنَّ الفقراء والحزانى والمضطهدين والجياع هم سعداء بالتحديد لأنه أتى ليحرِّرهم.
لنتذكّر جواب يسوع لتلاميذ يوحنّا المعمدان الذين أتوا إليه يسألون فيما إذا كان هو المسيح المنتظَر: «اذهبا فأخبرا يوحنا بما سمعتما ورأيتما: العميان يبصرون، العرج يمشون مشيا سويا، البرص يبرأون والصم يسمعون، الموتى يقومون، الفقراء يبشرون» (لو 7، 22). هذا يعني أنّ التطويبات هي في النهاية رسالة. رسالة سلّمنا إيّاها يسوع لكي نتمِّم ما بدأ به. هذا يعني أنّه لا يمكننا أن نتوقع من الله أن يلغي الفقر والفقراء، بل هذه هي مسؤوليتنا نحن.
عندما يعيش المسيحيُّون هذه الكلمات، على مثال القدِّيسين، لن يكون هناك من فقراء، ولا جياع ولا مضطهدين إلخ... في هذه الحالة يتحقق ملكوت الله. هذه هي رسالة إنجيل اليوم. تتحقق هذه الرّسالة عندما نتبنّى حكمة التطويبات التي هي على عكس حكمة العالم. مقابل جنون تملك كلّ شيء، التسلط على الآخرين واستعبادهم والحكم عليهم، نحن مدعوّين للشهادة بأن «حماقة الصليب» هي حكمة الله.
لا شكّ بأنّنا نلتقي، على هذا الطريق الكثير من التردّد والنكران على مثال بطرس، نلتقي بالكثير من المخاوف، ولكنّنا نثق بمن أوّل من بنى حياته بحسب التطويبات، مُظهرًا لنا طبيعة الله السّعيد لأنّه رحيم. حبّه يبرِّرنا كما برّر جميع القدِّيسين مع أنّهم خطأة، هم أيضًا.
فحياة المسيح هي التفسير لكلامه، وبالتالي أن نحيا التطويبات، هذا يعني أن نتمثل به أكثر، لأنّه هو الوحيد الذي عاش هذه الكلمات بشكلٍ تام. يسوع جعل من نفسه فقيرًا هو مَن «ليس له ما يضع عليه رأسه» (متى 8، 20). كما جعل من نفسه وديع ومتواضع القلب وأُعطي في قيامته الأرض بكاملها شراكة مع «البشر من كلّ أمّة وعرق وشعب ولغات». لقد بكى يسوع على أورشليم وفي أورشليم تمّت تعزيته في صباح أحد القيامة.
لقد كان يسوع جائعًا وعطشانًا للعدالة وقد تمّ إشباعه. لقد غفر يسوع لكلِّ الناس بما فيهم يهوذا الذي قال فيه أنّه صديقه (متى 26، 50). لقد أصبح غفرانًا لكلِّ مَن يؤمن به. كان قلب يسوع نقيًّا. فكان يرى في كلّ وجه مخلوق الله؛ وفي كلّ إنسان بصمة الخالق.
كان يسوع صانع سلام فحطّم «جدار الحقد» (أف 2، 14). وكان مضطهدًا لكنّه كان أوّل الدّاخلين إلى الملكوت الذي «أُعد لأجلنا منذ إنشاء العالم» (متى 25، 34). لقد ابتهج فرحًا في الناصرة بفعل الرّوح القدس وهذا الفرح، لم يستطع أحد أن ينتزعه إيّاه حتى في يوم آلامه.
قد نعتقد بأنّ التطويبات هي عبارة عن وصفة نتبعها لكي نحقق وحدة البشر. في الواقع، التطويبات تتحدّث لنا عن ما هو في أعماقنا وينسجم مع الملكوت. إنّها إعلان ودعوة للسّعادة؛ سعادة لا تكمن في الغنى ولا في التسلّط ولا في الانتصار على الآخرين ولا في اختفاء الألم أو الاضطهاد، إنّما في الاتّحاد مع الآخرين.
بهذا المعنى أقول طوبى، طوبى للذين، أينما وجدوا وفي أيّ إطار ثقافي حضاريّ أو دينيّ كانوا ولهم روح الفقير ويمارسون الرّحمة ويعملون من أجل السَّلام ولهم قلب نقيّ مستقيم. جميعهم يشكلّون جزءًا من الجسد الغير مرئيّ «لاتّحاد القدّيسين».
الأب رامي الياس اليسوعيّ