إنَّ التّأمل في أسرار المسيح يُعرَض على المؤمنين في المسبحة الورديّة بطريقة مميّزة قادرة بطبيعتها على أن تسهّل عليهم استيعاب هذه الأسرار.
إنّ هذه الطريقة مؤسّسة على الترداد، وهذا الترداد يحدث عند تِلاوة السّلام الملائكيّ الذي يُعاد عشرَ مرّات في كلّ سرّ. فإذا اكتفينا بالنّظر إلى هذا الترداد نظرة سطحيّة، مال بنا الرأي إلى القول بأنّ تِلاوة المسبحة الورديّة مُمارسة جافّة تدعو إلى الضّجر. ولكنَّ الوضع يتغيّر تمامًا في نفوسنا إذا اعتبرنا أنّ المسبحة الورديّة هي تعبير عن الحبّ الذي لا يملّ من التوّجه إلى الشّخص المحبوب ولو بالأقوال نفسها، ولكن بعاطفة جديدة ينعشها دومًا هذا الحبّ.
لقد إتخذّ الله في المسيح قلبًا من لحم، فقلبه ليس قلبًا إلهيًّا فحسب، غنيًّا بالرّأفة والمغفرة، بل هو قلب بشريّ أيضًا، قادر على أن يختلج عند كلّ نبرة من نبرات المودّة.
وإذا أردنا لتأييد قولنا شهادة إنجيليّة توضح هذا القول، فإنّه لا يصعب علينا أن نجدها في الحوار المؤثر الذي جرى بين المسيح وبُطرس. طرح المسيح على بطرس هذا السّؤال: "يا سمعان بن يونا، أتحبّني؟" وطرحه ثلاث مرّات، وسمع عنه الجواب ثلاث مرّات: "يا ربّ، أنت تعرف أنّي أحبّك". لا شكّ في أنّ لهذا الطرح المُثلث علاقة بمهمّة بطرس، غير أنّ جمال هذا الترداد المُثلّث لا يُخفى على أحد.
إنّ هذا الجمال يظهر في ترداد السّؤال وفي ترداد الجواب الذي عبّر به بُطرس تعبيرًا مُلائمًا بألفاظ تعرفها الخبرة العالميّة للحبّ البشريّ. فإذا أردنا أن نفهم ما هي المسبحة الورديّة، فما علينا إلّا أن نتوغّل في داخل الحركة الديناميكيّة النفسيّة الخاصّة بالحبّ.
وهناك قضيّة واضحة: فإذا كان ترداد السّلام الملائكيّ يُوجّه إلى مريم مباشرة، فإنّ الحبّ في نهاية الأمر، بالترداد ومع الترداد، يُوجّه إلى المسيح نفسه. إنّ الترداد يتغذّى بالرّغبة في أن نكون أكثر تشبّهًا بالمسيح.
هذا هو برنامج الحياة المسيحيّة الذي عبّر عنه بولس بأقوال ناريّة عندما قال: "الحياة عندي هي المسيح، والموت ربح" (فيلبي 1: 21)، وعندما قال أيضًا: "لا أنا أحيا، بل المسيح يحيا فيَّ" (غلاطية 2: 50).
إنّ المسبحة الورديّة تُساعدنا على أن ننمو في هذا التّشبه بالمسيح إلى أن نصل إلى القداسة. إنّ مجموعة التأمّلات المتتابعة التي تعرضها المسبحة الورديّة على المؤمنين لا تحيط بالمواضيع كلّها إحاطة كاملة، بل تكتفي بأن تذكّرهم بأهمّها وأبرزها، وتبثّ فيهم الشّوق إلى معرفة المسيح معرفة تدفعهم إلى المُطالعة المُباشرة لنصوص الإنجيل.
إنّ كلّ حادثة من حوادث حياة المسيح، كما سردها الإنجيليّون تتلألأ في هذا السرّ الذي يفوق كلّ معرفة. إنّه سرّ الكلمة الذي أصبح جسدًا وقد حلّ في جسده كمال الألوهيّة.
ولذلك فإنّ التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة يُلّح على أسرار المسيح ويذكّر القرّاء بأنّ كلّ حياة يسوع هي علامة سرّه. إنّ انطلاقة الكنيسة في الألف الثالث تُقاس بمقدار قدرة المسيحيّين على "تبيّن سِرّ الله، أعني المسيح الذي استكّنت فيه جميع كنوز الحكمة والمعرفة". (قولوسي 2: 2-3).
فكلّ واحد من المعمّدين يوجّه إليه التّمني الحارّ الذي نقرأه في الرّسالة إلى أهل أفسس: "ليُقِم المسيح في قلوبكم بالإيمان. تأصّلوا في المحبّة… هكذا تعرفون محبّة المسيح التي تفوق كلّ معرفة، وتتسعون لكلّ ما عند الله من سعة" (أفسس 3: 17-19).
إنّ المسبحة الورديّة تقوم بخدمة هذا المثل الأعلى، وتكشف عن السرّ الذي يسمح للمؤمنين بأن يطّلعوا إطلاعًا أوفر على معرفة المسيح التي تتّصف بالعُمق والإلتزام. ويمكننا أن نسمّي هذا المثل الأعلى "طريق مريم".
إنّه طريق حياة عذراء الناصرة التي كانت إمرأة الإيمان والصّمت والإصغاء. وهو أيضًا طريق تكريم مريم، المنتعش بمعرفة العلاقة التي تربط المسيح بأمّه الفائقة القداسة برباط لا ينفصم. فإنّ أسرار المسيح هي - نوعًا ما - أسرار أمّه حتّى وإن لم تكن حاضرة فيها حضورًا مباشرًا، إذ أنّها تعيش منه وبه. ونحن عندما نتلو السّلام الملائكيّ، نتبنّى أقوال الملاك جبرائيل وأليصابات، ونرى أنفسنا مُندفعين دومًا إلى أن نبحث بطريقة جديدة في مريم وبين يديها وفي قلبها عن "ثمرة أحشائها المباركة".
من الإرشاد الرسولي للبابا القديس يوحنا بولس الثاني - 2002