"لا تدعوا الصّليب يُخيفُكم، يقول الرّبّ يسوع، ولا تدعوه يُشَكِّكُم في أقوالي". فكما أنّ الحيَّة التي رفعها موسى في البريَّة كانت فعّالة بسلطة الذي أمَرَه برفعها... هكذا حَملَ الرّبّ خطايا البشر وعانى آلام الصّلب، ولكن بفضل القوّة التي تسكنه، جعل أولئك الذين يؤمنون به مستحقّين للحياة الأبديّة. يقول لنا الرّب يسوع: "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" ( يو 3/ 16). مُفسّرًا أنّ هذا العمل هو دلالة أخرى على محبّة الله...
موضوع الصّليب أساسيّ في الإيمان المسيحيّ. لكن، مع الأسف غالباً ما نُسيء فهمه ونعتبره دعوة إلى الألم. بينما المسيح يُفهمنا بأنّ دعوتنا هي دعوة إلى الفرح وليس إلى الألم. لنرى عن كثب ماذا يقول لنا الإنجيل عن الصّليب ولماذا الصّليب؟ هل هو أمر لا بُدّ منه؟ وماذا يعني أن نحمل صليبنا؟ يقول لنا الإنجيل (يو 3/ 14-21): "إنّ إبن الإنسان يجب عليه أن يُعاني آلاماً شديدةً، وأن يرذله الشيوخ وأحبار والكتبة، وأن يُقتل وأن يقوم بعد ثلاثة أيّام".
وبالتالي أوّل سؤال يخطر ببالنا لدى قرأتنا لهذه العبارة: هل كان يسوع في صدد تطبيق برنامج مُسبق الصّنع؟ هل أتى ليُصلب؟ هناك سلسلة من النّصوص تُبيّن لنا بأنّ موت المسيح أمرٌ ضروريٌّ "يجب على إبن الإنسان". ولكن هناك نصوص أُخرى تقول لنا بأنّ هذا الموت كان حرّاً، موت تمّ اختياره مِن قبل يسوع: "إنّ الآب يُحبّني لأنّي أبذل نفسي لأنالها ثانية. ما من أحدٍ ينتزعها منّي، ولكنّي أبذلها برضاي".
فهل موت يسوع هو ضروريّ، أم موتٌ مُختار، اختاره يسوع بملء حرّيته؟ كلمة مفتاح قراءة هذه النصوص هي بدون شكّ كلمة البذل، أي تسليم الذات. ويسوع يُفاجئنا في العشاء الأخير: فقد سلّم ذاته (بذلها) قبل أن يأتي يهوذا ليسلمه. وبالتالي فالعشاء الأخير هو مفتاح قراءة آلام يسوع: إنّه المكان الذي تخلى يسوع عن حياته ليجعل منها عطيّة حياة. بهذه الطريقة تجاوز يسوع ضرورة الموت ليجعل منها مكان حرِّيَّة.
المسيح لم يبحث عن الصّليب، بل قبله بكلّ حبّ وحريّة ووعي. فالله لا يُرسل لنا صلباناً، لأنّه حبّ. وبالتالي الصّليب هو صليب الحبّ، لا صليب الآلام، بمعنى أن الحبّ، يجعلني، على مثال المسيح، أقبل الصّليب، دون أن أبحث عنه. بهذا المعنى أقول أنّني مدعوّ لأعيش الصّليب بفرح.
فالمسيح لا يُخلّصنا بموته فقط، بل خاصّة بالأمانة التي دفعته للعيش مع الإنسان، دفعته إلى تحقيق إرادة الآب: لقد عبّر عن حبّه لأبيه حتّى الموت، الموت حبّاً. بفضل الصّليب عرف الإنسان أنّ الله محبّة.
فما هي نتائج هذا المفهوم على حياتنا؟ أوّلاً الصّليب هو قبل كلّ شيء صليب الحبّ، لا صليب الألم. هذا يعني أنّ حبّي للآخرين يجعلني أقبل الصّليب ولا أتلقاه على أنّه مفروض عليّ من الخارج. هذا يعني أن الحبّ يجعلني أتألّم من أجل الآخرين، من أجل من أُحبّ.
هذا يعني أنّ دعوة المسيحيّ هي دعوة إلى الحبّ والفرح وليس إلى الألم. فالله محبّة ولا يطلب منّا سوى الحبّ، لكن للحبّ شروطه ومتطلباته. الله لا يرسل لنا صُلباناً. الحبّ الحقيقيّ يدفعني إلى قبول الموت بشتّى أشكاله: أوّلاً الموت المعنوي، أي الموت عن الذات. أنا مدعوّ لأموت عن ذاتي مِن أجل مَن أحبّ. لا بُدّ من أن أموت عن ذاتي إن أردت أن ينمو الآخرون: أموت عن أنانيّتي، عن حبّي المُفرط لذاتي لكي أكون أكثر حُضوراً للآخر المُحتاج إليّ.
بهذا المعنى يقول يوحنّا المعمدان عن علاقته بالمسيح: "له ينبغي أن ينمو ولي أن أنقص" (يو3 /13). فإن حاولتُ أن أعيش الصّليب والآلام بهذا المفهوم، فهذا يجعلني حرًّا أمام موتي النهائيّ، موتي الجسديّ، أي باختصار أكون إنساناً حرًّا بكلّ ما للكلمة من معنى!
إذاعة الفاتيكان.