شكرًا القدّيس توما! لو لم تكن موجودًا، لكان هناك أمر أساسيّ ناقص في هذا المشهد. أريد القول إنّه شخص يمثـِّلنا جميعًا، مثلنا، شخص فيه يمكننا أن نجد ذاتنا: شخص لم يصل إلى الإيمان. شخص غير مستعد ليعتبر الصَدَفَ دُررًا. شخص لا يخاف التصرّف بدون رويّة. شخص لا يخاف أن يضع إصبعه «على» الجرح. شخص لا يخاف أن يضغط على المكان المؤلم!
فلنعترف، أنّه في الواقع، هذه الرواية للقيامة لا تعبر بسهولة وخاصّة في أيّامنا هذه. إنّها الرواية التي أبعدت الكاتب الشّهير «Antoine de Saint-Exupéry»، هذا الكاتب المعروف بالإنجيليّ بامتياز. ممّا يعني أنّ هذه الرواية لا يمكن تصديقها. كم كان من السّهل لو عبر يسوع بين النّاس وسلّم عليهم قبل عودته إلى الآب. لكن في هذه الحالة كنّا قلّنا: «لقد رأى التلاميذ رؤية أو ظهورًا، وفي النهاية الرّؤية ليست بالأمر المهم لهذه الدرجة».
كثير من القدّيسين كان لهم رؤى، لكن في النهاية، لا يمكن للرّؤية أن تكون موضوع قانون إيمان. والكنيسة لا تُلزم أحدًا على الإيمان برؤى القدّيسة برناديت في لورد! المهم هو ما قاله يسوع وعمله وما كان عليه. شهادته للحبّ الغير اعتيادي، هذه الحكمة الهائلة في كلامه، والسّخاء الفريد. لقد مات لكن روحه مستمرّ، روحه حيّ. روحه يكفي ليؤسّس المسيحيّة.
لكن رواية الجسد الذي يجتاز الموت، لا! أليس هذا ما تقدّمه لنا العديد من المجلّات والصّحف والبرامج المتلفزة؟ حتمًا، روح المسيح لا يكفي ليؤسِّس المسيحيّة. كان لا بدّ ليسوع من أن يجتاز بالفعل الموت، أن يدخل فعليًا الموت ويخرج فعليًا منه. فشكرًا توما لوجودك هنا. شكرًا لأنّك طرحت الأسئلة التي تزعج، بينما لم يجرؤ التلاميذ الآخرين عليها كما تُبين لنا إحدى لقاءات القائم من الموت معهم.
فبفضل توما، وفي حال لم نفهمه سابقـًا، لا يُمكن للقائم من بين الأموات أن يكون بالنسبة لنا مجرّد هلوسة، أو طريقة في الكلام. لكن يبقى السّؤال: يسوع القائم من بين الأموات من هو؟ هل هو جثة عادت إلى الحياة، مثل لعازر الذي هو أيضًا عاد إلى الحياة؟ على سؤال ماديّ يجيب الإنجيل بجواب روحانيّ، أي جواب يذهب إلى أبعد، أكثر من مجرّد جواب بسيط ماديّ.
فالحقيقة الروحيّة، في الواقع، هي حقيقة إنسانيّة، وبالتالي لا يمكنها أن تكون مجرّد حقيقة ماديّة. وما هي الحقيقة المادية؟ هي حقيقة مادية، حقيقة فقيرة، حقيقة من مجال اليقين، أي أنّها حقيقة مُقنعة. بينما الحقيقة الإنسانيّة، فهي حقيقة روحانيّة، حقيقة وجوديّة، حقيقة تمسّ معنى الحياة والموت، حقيقة يتساءل حولها بيلاطس البنطيّ، والحقيقة بحدِّ ذاتها لا يمكن أن تكون من مجال اليقين.
لا يمكن للحقيقة القبول بأن يُغلق عليها ضمن حدود الإقناع. فالحقيقة التي تستند على الإقناع، هي مجرّد حقيقة بوليسيّة، أو صحفيّة، حقيقة تافهة، حقيقة فقيرة. لكن الحقيقة بكلّ معنى الكلمة، الحقيقة الروحيّة، حقيقة الحبّ مثلاً، هذه الحقيقة هي ما وراء المادة، ما وراء الجسد الذي تسكنه، بدون شكّ، وبدونه لا وجود لها، لكنّ الجسد الذي تتجاوزه من بعيد وتنيره بلا حدود.
الحقيقة الروحيّة هي ما رواء المؤشرات. إنّها من مجال الإيمان. أي من مجال الغير مرئيّ. حقيقة الحبّ تعود إلى الإيمان بالحبّ. فلا يمكننا أن نحبّ إن لم نؤمن بالحبّ. وما من أحد رأى الحبّ! هكذا الأمر بخصوص يسوع القائم من بين الأموات. فلا يمكن لجسد يسوع أن يكون وسيلة إقناع. إنّه جسد روحانيّ على حدّ تعبير القدّيس بولس الرّسول (1 قور 15، 44).
فهل هناك تناقض في التعابير؟ كيف يمكن التّعبير عن موضوع كهذا سوى من خلال الصّور والمجاز، ممّا يحمينا من الوقوع في تعاريف القواميس أو المعادلات الكيميائيّة أو الفيزيائيّة. من يحبّون جسداً آخر غير جسدهم، يمكنهم بدون شكّ أن يختبروا الشّعور بما يمكن أن يكون عليه الجسد الروحانيّ: المحبّين والشّعراء. فالمفكر الفرنسي «Baudelaire» يقول عن أحدهم: «إنّ جسده الروحانيّ له عطر الملائكة»!
فإذا كان الحبّ يعني القول للآخر: «أنت لن تموت أبداً». وإذا كان الحبّ قوّي كالموت كما يقول لنا سفر نشيد الأناشيد (8، 6). فالجسد، إنسانيّة الإنسان، بقدر ما يسكنها ويعبرها الحبّ، لن يمكن للجسد أبداً أن يكون كما لو أنّه لم يوجد مُطلقـًا. والسؤال: ما الذي اعترف به توما؟ هل أوّلاً جسد الرّبّ القائم من بين الأموات؟ ما يعترف به، ليس برسم جانبيّ لجبين أو لابتسامة.
ما يعترف به توما هو الثقوب: ثقوب الأيديّ، ثقوب الأرجل والصّدر. جسد مثقوب، جسد مفتوح، جسد تم عبوره. ماديّ! ليكن، لكن مادة فاغرة، مفتوحة على ما هو ليس هي لكنّه عبرها. ثقب في صخرة، فراغ؛ جسد مثقوب، كما لو أنّ لا شيء لديه يخفيه، لا شيء يحتفظ به لنفسه. جسد مفتوح، كما لو أنّه أعطى كلّ شيء، كما لو أنّه من الآن هو علامة لعطاء مُطلق.
هذه هي اليقينيات المُقدّمة إلى إيمان توما، إلى إيماننا. هذه اليقينيات لا تُرغمنا بشيء. إنّها تدعونا فقط إلى الإيمان. الإيمان بالحبّ، الإيمان بالغير مرئي؛ الإيمان بأنّ الحياة هي أكثر من مجرّد حياة بيولوجيّة، أنّها أكثر من «الطعام واللّباس»، وأنّ حياة المسيح يمكنها أن تكون حياتنا، وقيامته قيامتنا.
الأب رامي الياس اليسوعيّ.