ثلاثة أقسام، اثنا عشر فصلاً، ومائة وسبع وستون مقطعًا وستوّن صفحة. هذه هي الوثيقة الختامية للجمعيّة العامة العادية الخامسة عشرة لسينودس الأساقفة حول موضوع "الشباب، الإيمان وتمييز الدعوات" والتي تمَّت الموافقة عليها عصر السبت السابع والعشرين من تشرين الأول أكتوبر الجاري.
تنطلق الوثيقة من حدث تلميذيّ عمَّاوس الذي يخبرنا عنه الإنجيليّ لوقا، وهي تبدأ بإلقاء نظرة شاملة على الإطار الذي يعيش فيه الشباب مسلِّطة الضوء على نقاط القوّة والتحدّيات التي يواجهونها. يبدأ كلُّ شيء بإصغاء تعاطفي يسمح بتواضع وصبر وجهوزيّة بالتحاور مع الشباب متحاشيًا إعطاء أجوبة معلّبة ووصفات جاهزة؛ لأنّ الشباب يريدون أن يتمَّ الإصغاء إليهم والاعتراف بهم ومرافقتهم ويرغبون في أن يُعتبر صوتهم مهمًّا ومفيدًا على الصعيدين الاجتماعيّ والكنسي؛ ومن هنا أهميّة إعداد أشخاص قادرين على مرافقة الأجيال الشابة بشكلٍ ملائم. جواب آخر تعطيه الكنيسة لأسئلة الشباب ويأتي من القطاع التربويّ الذي يقدّم للشباب تنشئة متكاملة وفي الوقت عينه شهادة إنجيليّة للتعزيز البشريّ.
بعدها تتوقّف الوثيقة عند موضوع المهاجرين كظاهرة أساسيّة وليس كمجرّد حالة طوارئ مؤقّتة، إذ أنَّ العديد من المهاجرين هم شباب أو قاصرين غير مرافقين يهربون من الحروب والعنف والاضطهادات السياسيّة أو الدينيّة والكوارث الطبيعيّة والفقر وينتهي بهم الأمر ضحايا للإتجار بالبشر والمخدرات والاعتداءات النفسيّة والجسديّة؛ ولذلك يتوجّه اهتمام الكنيسة بهم في منظار تعزيز إنساني حقيقي يمرُّ عبر استقبال المهاجرين واللّاجئين ويكون مرجعًا للعديد من الشباب الذين انفصلوا عن عائلاتهم.
تتابع بعدها الوثيقة بتأمّل واسع حول مختلف أشكال التعديات التي قام بها بعض الأساقفة والكهنة والمكرّسين والعلمانيِّين والتي تسبب في الضحايا آلامًا قد تدوم مدى الحياة ولا يمكن لأحد أن يجد لها علاجًا. في الوقت عينه يعبّر السينودس من خلال الوثيقة عن امتنانه للذين وبشجاعة قد أدانوا الشرّ الذي تعرَّضوا له لأنّهم بهذه الطريقة يساعدون الكنيسة لكي تتيقّن لما حصل ولضرورة التصرّف بحزم. كما لا تنسى الوثيقة العديد من العلمانيِّين والكهنة والمكرّسين والأساقفة الذين يتكرّسون يوميًّا بصدق لخدمة الشباب الذين بإمكانهم أن يقدِّموا مساعدة قيّمة من أجل إصلاح تاريخيّ في هذا المجال.
هذا وتتوقّف الوثيقة بعدها عند بعض أشكال الهشاشة التي يعيشها الشباب في مختلف القطاعات: في العمل حيثُ تفقر البطالة الأجيال الشابة وتحرمها من القدرة على الحلم؛ الاضطهادات حتى الموت؛ التهميش الاجتماعيّ لأسباب دينيّة وإثنيّة أو اقتصاديّة؛ والإعاقة. من جهّة أخرى لا تغيب القطاعات حيث يمكن لالتزام الشباب أن يعبّر عن نفسه بشكل مميّز كالعمل التطوّعي والاهتمام بالمواضيع الإيكولوجيّة والالتزام في السياسة من أجل بناء الخير العام وتعزيز العدالة التي يطلب من أجلها الشباب من الكنيسة التزامًا حازمًا وصادقًا. كما تؤكّد الوثيقة أيضًا أنّه بإمكان عالم الرياضة والموسيقى أن يقدّم للشباب الإمكانية ليعبِّروا عن أنفسهم بأفضل شكل ممكن؛ وبالتالي تدعو الكنيسة لعدم التخفيف من القوى التربويّة والإدماجية للنشاط الرياضي، أمّا فيما يتعلّق بالموسيقى فيؤكّد السينودس أنّها تشكّل موردًا راعويًّا يُسائلنا لتجدّد ليتورجي لأنّ الشباب يرغبون في ليتورجيّة حيّة حقيقيّة وفرحة كلقاء مع الله والجماعة.
هذا وتشير الوثيقة إلى أنّ الله يكلّم الكنيسة والعالم من خلال الشباب الذين وإذ يحملون قلقًا سليمًا يمكنهم أن يكونوا سبَّاقين ولذلك ينبغي قبولهم واحترامهم ومرافقتهم. بوصلة أكيدة أخرى للشباب هي الرسالة وبذل الذات الذي يحمل إلى سعادة حقيقيّة وثابتة: إنَّ يسوع في الواقع لا يحرمنا الحريّة بل يحرِّرها، لأنَّ الحرية الحقيقيّة ممكنة فقط في إطار الحقيقة والمحبّة. ويرتبط بمبدأ الرِّسالة ارتباطًا وثيقًا أيضًا مبدأ الدعوة: كلّ حياة بالنسبة لله هي دعوة، وكلُّ دعوة معموديّة هي دعوة للجميع إلى القداسة.
بعدها تتوقّف الوثيقة عند المرافقة وتؤكّد أنّها رسالة ينبغي على الكنيسة أن تقوم بها على الصعيد الفرديّ والجماعيّ وأن تبحث مع الشباب عن مسيرة تهدف للقيام بخيارات نهائيّة. وتؤكِّد الوثيقة في هذا السياق أنَّ الجماعة الكنسيّة هي مكان العلاقات والإطار حيث يلمسنا يسوع ويعلّمنا ويشفينا؛ كما وتسلِّط الوثيقة الختاميّة الضوء على أهميّة سرّ المصالحة في حياة الإيمان وتحث الوالدين والمعلّمين والكهنة والمربين على مساعدة الشباب من خلال العقيدة الاجتماعيّة للكنيسة لكي يتحمّلوا مسؤلياتهم في الإطار المهنيّ والجيوسياسيّ. ولذلك يعزِّز السينودس مرافقة شاملة تتركّز في الصّلاة والعمل الداخليّ الذي يقيّم اسهام علم النفس والعلاج النفسي إذا انفتحا على الله؛ وبالتالي يطالب السينودس بمرافقين مميّزين: أشخاص متّزنون، يصغون ويؤمنون ويصلّون، فهموا وقبلوا ضعفهم وهشاشتهم وبالتالي يقبلون الآخرين بدون تساهلات زائفة ويعرفون كيف يصلحون الآخرين بشكل أخويّ بعيدًا عن التملّك والتلاعب. ويكتب آباء السينودس أنَّ الكنيسة هي الإطار للتمييز الضمير وهي المكان الذي نجد فيه ثمرة اللقاء بالمسيح والشّركة معه: وبالتالي يتمُّ التمييز من خلال مرافقة روحيّة منتظمة تكون بمثابة عمل صادق للضمير يمكن فهمه فقط من خلال صلاة حقيقيّة وتتطلّب الشجاعة للالتزام في جهاد روحيّ.
وتتابع الوثيقة مشيرة إلى أنَّ مريم المجدليّة، التلميذة المرسلة الأولى التي شُفيت من جراحها وهي شاهدة على القيامة هي أيقونة الكنيسة الشابة. وبالتالي يمكن لتعب الشباب وهشاشتهم أن يساعداننا لنكون أفضل، أمّا أسئلتهم فتتحدّانا وانتقاداتهم هي ضروريّة لأنّ صوت الرَّبّ يطلب منّا من خلالها التوبة والتجدّد. هذا وتتحدّث الوثيقة عن السينودسيّة كأسلوب للرِّسالة التي تحثنا على الإنتقال من الـ"أنا" إلى الـ"نحن" ولنأخذ بعين الاعتبار تعدّد الوجوه والاختلافات الثقافيّة. وفي هذا الأفق ينبغي تقييم المواهب التي يمنحها الرُّوح القدس للجميع متحاشيًا الإكليروسيّة التي تستثني الكثيرين من عمليّات اتّخاذ القرارات ولذلك ينبغي أن تعاش السلطة في إطار الخدمة.
بعدها تواجه الوثيقة الرِّسالة في الإطار الرقميّ كجزء لا يتجزّأ من واقع الشباب اليومي. فإن كان من جهّة يسمح بالحصول على المعلومات ويحرّك المشاركة الاجتماعيّة والسياسيّة والمواطنيّة الفعّالة يقدّم من جهّة أخرى جانبًا مظلمًا نجد فيه العزلة والتلاعب والاستغلال والعنف والخلاعة. ولذلك تتمنى الوثيقة أن يصار إلى خلق مكاتب ومنظمات للثقافة والبشارة الرقميّة التي وبالإضافة إلى تعزيز تبادل وانتشار الممارسات الصالحة يمكنها أن تدير أنظمة للتصديق على المواقع الكاثوليكيّة للتصدّي لانتشار الأخبار المزيّفة حول الكنيسة.
كما سلّطت الوثيقة الضوء أيضًا على ضرورة الاعتراف بدور النساء وتقييمه في المجتمع والكنيسة لأنَّ غيابهنَّ يفقر النقاش الكنسيّ والمسيرة الكنسيّة. بعدها توقّفت الوثيقة حول موضوع الجسد والعاطفة والجنس وذكّرت العائلات والجماعات المسيحيّة بأهميّة أن يكتشف الشباب الجنس كعطيّة وضرورة تقديم أنتروبولوجيا عاطفيّة وللجنس للشباب قادرة على إعطاء القيمة الحقيقيّة للعفّة من أجل نمو الأشخاص في جميع حالات الحياة. هذا ولحظ السينودس وجود مسائل تتعلّق بالجسد والعاطفة والجنس تحتاج لتعمّق أكبر على الصعيد الأنتروبولوجيّ واللاهوتيّ والراعويّ ومن بينها تلك المتعلِّقة بالاختلافات والتناغم بين الهويّة الذكوريّة والنسائيّة والانحرافات الجنسيّة.
من بين التحديات الأخرى التي أشار إليها السينودس نجد التحدّي الاقتصاديّ وبالتالي دعا الآباء لاستثمار الوقت والموارد في الشباب؛ فيتمُّ هكذا تقديم مرحلة للشباب مخصّصة للنضوج في الحياة المسيحيّة البالغة التي ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار ابتعادًا عن الأُطر والعلاقات الاعتياديّة. كما وأشار آباء السينودس إلى ضرورة إعطاء اهتمام خاص لقبول المرشحّين للكهنوت الذي يتمُّ أحيانًا بدون معرفة ملائمة للأشخاص وقراءة متعمِّقة لتاريخهم.
وتختتم الوثيقة الختامية للسينودس حول الشباب بالإشارة إلى أن تنوّع الدعوات يجتمع في الدعوة الواحدة والشاملة إلى القداسة؛ وإلى أنَّ الكنيسة مدعوّة لتغيير في وجهة النظر: إذ يمكنها، من خلال قداسة العديد من الشباب المستعدّين لبذل حياتهم وسط الاضطهادات لكي يبقوا أمناء للإنجيل، أن تجدّد حماسها الروحيّ ودفعها الرسوليّ.
إذاعة الفاتيكان