نحن في تساعية الميلاد التي يُحتفل بها في جماعات مسيحيّة كثيرة عبرَ ليتورجيات غنيّة بِنصوصٍ من الكتاب المقدّس، تهدف كلّها لِتغذية انتظار ولادة المُخلِّص.
في الواقع تُرَكِّز الكنيسة جمعاء نظرتها الإيمانيّة نحو هذا العيد الذي أمسى الآن قريبًا فتتهيّأ، كما في كلّ سنة، لِتَنضمّ إلى نشيد الملائكة البهيج، الذين سيُبشِّرون في جنح الظلام الرُعاة بالحدث الرائع المتمثّل بولادة الفادي، ويدعونهم لِلذهاب إلى مغارة بيت لحم. فهناك يرقُد عمّانوئيل، الخالق الذي جعل نفسه خليقة، مُقمَّطًا، مُضجَعًا في مِذوَد حقير (لوقا 2، 13 – 14).
الميلاد هو عيدٌ عالميّ بِسبب الجوّ الذي يميّزهُ. حتّى مَن لا يعتبر نفسه مؤمنًا، يُمكنهُ بالفِعل أن يلحظ في هذه المناسبة المسيحيّة السنويّة شيئًا رائعًا ساميًا، شيئًا حميميًّا يُحاكي القلب. إنّه العيد الذي ينشد عطيّة الحياة.
فولادة طفل يُفترض أن تكون دائمًا حدثًا يجلُب البهجة؛ ومُعانقة مولود جديد يبعث فينا عادةً عواطف انتباه وعناية وتأثُّر وحَنان. والميلاد هو لقاءٌ مع مولود جديد يصرُخُ في مغارة حقيرة.
وفيما نحن نتأمّلهُ في المغارة، كيفَ لا نُفكِّر بالأطفال الكثيرين الذين يرَون النّور اليوم في فقرٍ مُدقِع في مناطق كثيرة من العالم؟
كيفَ لا نُفكِّر بالمولودين الجُدُد غير المقبولين والمرفوضين، وبالذين لا يستطيعون البقاء على قيد الحياة بِسبب نقص العلاج والعناية؟
كيف لا نُفكِّر أيضًا بالعائلات التي تبغي فرحة ابنٍ ولا يُلبّى انتظارها؟
لكن الميلاد يتعرّض، تحت تأثير الدافِع الاستهلاكيّ الاستمتاعيّ، ويا لِلأسف، لخطر فقدان معناه الروحيّ ليُختزَل إلى مناسبة تجاريّة صرفة لاقتناء الهدايا وتبادلها! ولكن في الحقيقة، يُمكِن للصعوبات والشكوك والأزمة الاقتصاديّة نفسها التي تعيشها عائلات كثيرة في هذه الأشهُر، والتي تُصيب الإنسانيّة بأكملها، أن تكونَ دافعًا لإعادة اكتشاف حرارة البساطة، والصداقة والتضامُن، وهي قِيَمٌ يتميّز بها الميلاد. يُمكِن لِلميلاد، في تجرّده من القشور الإستهلاكيّة والماديّة، أن يصبح هكذا مناسبةً لاستقبالِ رسالة الأمل الآتية من سرّ ولادة المسيح كَهديّة شخصيّة.
ولكن كلّ هذا لا يكفي لندرك قيمة العيد الذي نستعدّ لهُ في شموليّته. فنحن نعلم أنّه يحتفل بالحدَث المركزيّ في التاريخ: تجسّد الكلمة الإلهيّة لِفداء البشريّة. يهتُف القدّيس ليون الكبير، في إحدى عظاته الميلاديّة العديدة قائلا: "فلنبتَهِج بالربّ، يا أعزّائي، ولِنَفتَح قلبنا للفرح الأنقى. لأنَّه قد بزَغَ النهار الذي يعني لنا الفداء الجديد، الإستعداد القديم، السعادة الأبديّة. يتجدّد لنا فعلاً في الدورة السنويّة الجارية سرّ خلاصنا السامي، الذي وُعِدنا به، في البداية والذي مُنح في نهاية الدهور، والمُقدَّر لهُ أن يبقى إلى ما لا نهاية" (العِظة 22).
حولَ هذه الحقيقة الأساسيّة يعود القدّيس بولس عدّة مرّات في رسائله. حيث يكتُب إلى أهل غلاطية، على سبيل المِثال: "ولكن، لمّا بلغَ مِلءُ الزمان، أرسلَ الله ابنهُ مولودًا من امرأة، مولودًا في حُكمِ الشريعة... حتّى ننالَ البُنُوَّة" (غلا 4، 4).
وفي الرسالة إلى أهل رومة يوضح منطق هذا الحدث الخلاصيّ ونتائجه المُتطلِّبة: "فإن كُنَّا أولادَ الله فنحنُ أيضًا وارثون: وارثونَ لله ومُشاركونَ لِلمسيحِ في الميراث؛ لأنّنا إن شاركناهُ حقًّا في آلامِهِ، نشاركُهُ أيضًا في مجدِهِ" (رو 8، 17).
لكن من يتأمّل بِعُمقٍ في سرّ التجسّد هو بالأخصّ القدّيس يوحنّا في مقدّمة الإنجيل الرابع. ولِهذا السبب فإنَّ هذه المقدمة تشكِّل منذ القِدَم جزءًا من ليتورجيا الميلاد، حيث يوجد فيها بالفِعل التعبير الأكثر أصالة والخُلاصة الأعمق لِهذا العيد وأساس الفرح الذي يكمُن فيه. إذ يكتب القدّيس يوحنّا: "Et Verbum caro factum est et habitavit in nobis / والكلمةُ صارَ جسدًا وسكنَ بينَنا" (يوحنّا 1، 14).
في الميلاد إذًا لا نقتصر فقط على إحياء ذكرى ولادة شخصيّة عظيمة؛ لا نحتفل بِبساطة وبِشكلٍ عموميّ بِسرّ ولادة الإنسان أو بِشكلٍ عامّ بِسرّ الحياة؛ وبالطبع نحن لا نحتفل فقط ببداية فصلٍ جديد.
في الميلاد نستذكر شيئًا محسوسًا وهامًّا لِلبشر، شيئًا جوهريًّا بالنسبة لِلإيمان المسيحيّ، وهي حقيقةٌ يختصرها القدّيس يوحنّا في هذه الكلمات القليلة: "الكلمةُ صارَ جسدًا".
نحن نتناول حدثًا تاريخيًّا يهتمّ القدّيس لوقا بوضعهِ في إطار مُحَدَّد جيّدًا: وفي تلك الأيّام، صدرَ أمرٌ من أغوسطس قيصر بإحصاء كُلّ المعمورة. جرى هذا الإحصاء الأوّل، عندما كان كيرينوس واليًا على سوريا (لوقا 2، 1 – 7).
لقد جرى إذًا في ليلةٍ مؤرّخة حدثُ الخلاص الذي انتظرتهُ إسرائيل منذ قرون. وفي ظلمة ليل بيت لحم أضاء نور عظيم: تجسَّد خالق الكون مُوحِّدًا نفسه بِشكلٍ غير قابل لِلانحلال بالطبيعة الإنسانيّة، لكي يكون فعلاً، "إلهًا من إله، نورًا من نور" وفي الوقت نفسه إنسانًا، إنسان حقًّا.
إنَّ ما سمّاه يوحنّا في اليونانيّة "ho logos"- المُترجَم في اللاتينيّة بـ "Verbum" وفي الإيطاليّة "الكلمة" - يعني أيضًا "المعنى". يُمكننا إذًا أن نفهم عبارة يوحنّا هكذا: "المعنى الأبديّ" في العالم قد جعلَ نفسهُ مُدركًا لِحواسنا وعقلنا: يُمكننا الآن أن نتلمَّسَهُ ونُعاينَه (1 يوحنا 1، 1). "المعنى" الذي جعل نفسه بشرًا ليس مجرّد فكرة عامّة كامنة في العالم؛ إنّه "كلمة" موجّهة إلينا. "اللوغوس" يعرفنا، يُنادينا، يقودنا. إنّه ليس شريعةً جامعة، نقوم في إطارها بدورٍ ما، بل هو شخص يهتمّ بِكلّ شخص بِمُفرده: إنّه ابن الله الحيّ، الذي جعلَ نفسه بشرًا في بيت لحم.
يبدو هذا لأناسٍ كثيرين، وبِشكلٍ من الأشكال لنا جميعًا، أجمل من أن يكون صحيحًا. بالفِعل، هنا يتمّ التأكيد لنا من جديد: أجل، هناك معنى، والمعنى ليس اعتراضًا عاجزًا على ما ينافي العقل. للمعنى سلطة: إنّه الله. إلهٌ صالح، لا ينبغي الخلط بينه وبين أيّ كائن شامخ بعيد، لا يُمكن لأحد الوصول إليه، بل إلهٌ جعلَ نفسه قريبًا وهو قريبٌ جدًا منّا، يُخصِّص وقتًا لِكلّ واحدٍ منّا وقد أتى لكي يبقى معنا.
من التلقائيّ التساؤل: أمِنَ المعقول شيءٌ من هذا القبيل؟ أهو لائق بالله أن يجعل نفسه طفلاً؟. لكي نُحاول أن نفتح القلب على هذه الحقيقة التي تُنير وجود الإنسانيّة جمعاء، يجب تطويع العقل والاعتراف بِمحدوديّة ذكائنا.
ففي مغارة بيت لحم، يبدو لنا الله "رضيعًا" متواضعًا لكي يتغلّب على كبريائنا. لربّما كنّا استسلمنا بِشكلٍ أسهل أمام القوّة، أمام الحكمة؛ ولكنّه لا يريد استسلامنا؛ إنّه يُنادي بالأحرى قلبنا وحريّة قرارنا في قبول محبّته. لقد جعل نفسه صغيرًا لكي يحرّرنا من ذاك الزّعم الإنسانيّ في العظمة النابعة من الكبرياء؛ لقد تجسّد بِحريّة لكي يجعلنا فعلاً أحرارًا، أحرارًا في أن نُحبَّهُ.
إخوتي وأخواتي الأعزّاء، الميلاد هو مناسبة مميّزة لِلتأمّل في معنى وجودنا وقيمته. واقتراب هذا الاحتفال يُساعدنا، من جهّة، على التأمّل بِدراميّة التاريخ الذي يبحث فيه البشر دومًا، وهم مجروحون بالخطيئة، عن السعادة وعن معنًى مُرضٍ لِلحياة والموت؛ ومن جهّة أخرى، يحثّنا على التأمّل في طيبة الله الرحيمة.
الذي أتى لِيُلاقيَ الإنسان ويوصلَ إليه مباشرةً الحقّ الذي يُخلِّص، وليجعلَه يُشارك بِصداقته وحياته. فلنستعدَّ لذلك لِلميلاد بِتواضع وبساطة، ولنهيِّئَ أنفسنا لاستلام هبات النور والفرح والسلام التي تشعّ كلّها من هذا السرّ.
لِنستقبل ميلاد المسيح كَحدث يمكنه أن يُجدِّد وجودنا اليوم. فليجعلنا اللقاء مع الطفل يسوع أشخاصًا لا يُفكِّرون فقط بأنفسهم، بل ينفتحون على آمال الإخوة واحتياجاتهم. بِهذه الطريقة نُصبِح نحن أيضًا شهودًا لِلنور الذي يشعّ من الميلاد على إنسانيّة الألفيّة الثالثة.
لِنطلب من مريم الكليّة القداسة، وإناء الكلمة المتجسّدة المكرَّم، ومن القدّيس يوسف، الشّاهد الصّامت على أحداث الخلاص، أن ينقلا إلينا العواطف التي كانا يكنّانها حين كانا ينتظران ولادة يسوع، بِشكلٍ يُمكّننا من الاستعداد لِلاحتفال بِقداسةٍ بالميلاد الآتي، في مسرَّة الإيمان، يُحيينا الإلتزام بِتوبةٍ حقيقيّة.
البابا بنديكتس السادس عشر - 2008