كيف تشهد للرّبّ؟
شهادتك للرّبّ أيّها العزيز ليست أمرًا صعبًا كما قد تظن، لأن كرازتك "لا بحكمة كلام لئلا يتعطل صليب المسيح" (1 كو 1: 17)، بل بإعلان عمل الصّليب في حياتك العمليّة.
بالصّليب تدوس على سطوة الخطيئة شاهدًا للرّبّ في حياتك الداخليّة وسلوكك الخارجيّ، في أفكارك الخفيّة وتصرّفاتك الظّاهرة، في عواطفك وأحاسيسك.
بالصّليب تقبّل وصايا ربّنا يسوع الصّعبة، فترى "حملها خفيف ونيرها هيّنًا" وخاصّة تلك الوصيّة التي بها يكمل كلّ النّاموس والأنبياء "أن تحب الله من كلّ القلب... وقريبك كنفسك". تحب قريبك مهما ضايقك، ودبّر لك مكائد وحاول إيذاءك.
هكذا تجتذب النفوس بالوصايا العمليّة التي تحيا فيها، لأنّ "ناموس الرّبّ بلا عيب يردّ النفوس... وصايا الرّبّ مُضيئة تنير العينين عن بعد" (مز 18). فمن غير أن تتكلّم تردّ النفوس المتعبة وتنير العينين المُظلمة. لأنّك أنت نور العالم الذي يضيء بالعمل لا بالكلام، والخميرة الحيّة التي تخمّر العجين كلّه في صمت وملح روحيّ.
ربما لا تنطق بكلمة لكن حياتك تكون عظة قوّية. "لا قول ولا كلام. لا تُسمَعُ أصواتهم. في كلّ الأرض خرج منطقهم وإلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم" (مز 18).
باختصار فإنّك كونك عضوًا حيًّا في جسد الرّبّ السرّي - الكنيسة الحقيقيّة - يلزمك أن تكون مثل رأسك الحقيقيّ - الرّبّ يسوع - سالكًا بروحه المتسع لمحبّة الجميع.
هذه هي شهادتك له... أن تكون سفيرًا للرّبّ، لك رائحة الحبّ الذكيّة نحو البشريّة كلّها. يتّسع قلبك للمسيئين إليك وناكريّ الإيمان حتّى المجدّفين أيضًا. "لأنّه إن كنت تحبّ الذين يحبّونك فأيّ أجر لك، أليس العشارون يفعلون ذلك. وإن سلّمت على إخوتك فقط فأي فضل تصنع... فكن كاملاً مثل أبيك السماويّ" (مت 5: 46-48).
لقد أرسلك الرّبّ حَمَلاً بين ذئاب (متى 10: 16)، يفترسونك ويلتهمونك لكنّهم، كما يقول القدّيس أغسطينوس سرعان ما تتحوّل الذئاب إلى حملان.
أيّها البذرة الحيّة، لا تخف من الأرض التي تدفن فيها بل من حبّها، فإنك إن لم تمت لا تأتي بثمر كثير.
تشبّه بسيّدك لأنّه "ليس التّلميذ أفضل من المعلّم ولا العبد أفضل من سيّده. يكفي التّلميذ أن يكون كمُعلّمه والعبد كسيّده" (متى 10: 24) فإنّك بهذا تعلن نور الرّبّ للجميع.
أريد عملكم لا مديحكم
يبدو أنّ مقالي الأخير الطويل الذي ألقيته لإشعال غيرتكم تُجاه هذه الإجتماعات لم يكن نافعًا، لأنّه لا تزال كنيستنا مهجورة من أبنائها. لهذا فإنّني أجد نفسي ملزمًا أن أتضايق وأتكدر، فأوبّخ الحاضرين وأخطّئ الذين تخلّفوا عن الحضور. أولئك بسبب عدم قيامهم من كسلهم، وأنتم بسبب عدم تقديمكم يد المعونة في خلاص إخوتكم.
حقـًا إنّ من يتطلّع إلى تكدّري بطريق خاطئ يدعوني سليطًا. لكن هذا لا يمنعني من إثارة روحه للغرض نفسه (أي الإهتمام بخلاص إخوته)، لأنّه لا شيء عندي أفضل من هذا النّوع من (اللّجاجة).
ليحدث ما يحدث، مادمتم في النّهاية تخجلون وتعتنون بإخوتكم بسبب لجاجتي الدّائمة.
لأنّه ماذا يفيدني مديحكم ما لم أراكم تتقدّمون في الفضيلة؟! وماذا يضرّني في صمت السّامعين (عن مدحي) إن كنت أرى تقدّمكم؟!
فمدح المتكلّم لا يكمن في كلمات ثناء السّامعين، بل في التهاب غيرتهم نحو الصّلاح. ولا يكمن في الصّوت الذي يحدثونه أثناء سماعهم له، بل في الغيرة الباقية (العاملة). لأنّ كلمات الثناء الخارجة من الشّفاه سُرعان ما تنتشر في الهواء وتتبدّد. أمّا تقدم المستمعين في الفضيلة فيهب مكافأة أبديّة غير فانية لكلّ من المتكلّم والمطيعين له.
ثناء هتافكم يهب شهرة للمتكلّم هنا. أمّا ورع نفوسكم فيزكيه بالأكثر أمام عرش النّعمة. فمن كان محبًّا للمعلّم فليشتاق إلى نفع السّامعين له، لا إلى مدحه بالكلام.
إنّ إهمالنا لإخوتنا ليس بالخطأ الهيّن، إنّما يجلب علينا عقوبة عظيمة وتأديبًا بغير رحمة.
تاجروا في الوزنات
لقد وُبّخ الرّجل الذي دفن الوزنة، إذ لم يجاهد لأجل تغيير إنسانٍ شرّير... وبهذا صار هو شرّيرًا، لأنّه لم يُضاعف ما قد عهد إليه به، لهذا استوجب العقاب. فلا يكفي لخلاصنا أن نكون غيورين مُشتاقين إلى سماع الكتب المقدّسة، إنّما يلزمنا مضاعفة الوديعة. فمع اهتمامنا بخلاصنا الخاصّ بنا نتعهّد أيضًا بما هو لخير الآخرين.
لقد قال الرّجل المذكور في المثل "هوذا الذي لك" (متى 25: 25)، لكنّ هذا الدّفاع لم يقبل، إذ قيل له "فكان ينبغي أن تضع فضّتي عند الصيارفة".
أرجوكم أن تلاحظوا كيف أنّ وصايا السيّد سهلة، فالبشر يسألون المقرضين إيفاء الدّين (ولا يُبالون بشخص المقترض).. لكن الله لا يفعل هذا، إنّما يأمرنا أن نأخذ الوديعة ولا يحاسبنا عليها بقصد استردادها... إنّما يستجوبنا بخصوصها دون أن يطلبها منّا.
أي شيءٍ أسهل من هذا؟! ومع ذلك يلقب سيّده الوديع الرّحيم قاسيًا. لأنّ هذه هي عادة الإنسان الجاحد الكسلان يخفي خجله من أخطائه بنسبها إلى سيّده. لهذا أُلقيَ خارجًا في قيود الظّلمة الخارجيّة.
فلكي لا نسقط تحت العقاب، يلزمنا أن نودع تعاليمنا لدى إخوتنا، سواء كانوا يقبلونها أو يرفضونها. فإنّهم إن قبلوها ينتفعون ونحن نربح معهم. وإن رفضوها يسقطون تحت العقاب غير المحتمل دون أن يُصيبنا نحن أي ضرر. إذ نكون قد صنعنا ما يجب علينا من جهّة تقديم النصيحة. لكنني أخشى أن يبقوا على حالهم بسبب تراخيكم وإهمالكم.
لا تيأسوا من خلاص أحد
إنّ مداومة النّصيحة والتّعليم تجعل الإنسان مُجتهدًا وتصيّره إلى حالٍ أفضل، وفي هذا أقتبس المثل العام الذي يؤكّد هذه الحقيقة، وهو أن "قطرات الماء المتواترة تشقـّق الصّخر". أي شيء ألين من الماء؟! وأي شيءٍ أصلب من الصّخر؟! ومع هذا موالاة العمل باستمرار يغلب الطبيعة. فإن كان هذا بالنسبة إلى الطبيعة، أفليس بالأولى تغلب الطبيعة البشريّة؟!...
عظة للقديس يوحنا الذهبي الفم (+407 )