إننا نتشارك بفرح وامتنان بلحظات الصلاة هذه التي تُدخلنا في أحد الرحمة الذي رغب في إقامته القديس يوحنا بولس الثاني – والذي قد رحل عن عالمنا كاليوم منذ أحدى عشر عامًا- وقد أراد هذا كي يلبّي طلب القديسة فوستينا.
إن الشهادات التي قُدمت -ونحن ممتنون لها- والقراءات التي استمعنا إليها تفتح فسحات من النور والرجاء بغية الدخول في محيط رحمة الله الكبير. كم هي متعددة وجوه رحمته التي، من خلالها، يأتي لملاقاتنا؟ إنها كثيرة حقا؛ ومن المستحيل أن نصفها كلها، لأن رحمة الله تنمو باستمرار. والله لا يتعب أبدًا من التعبير عنها وينبغي ألا نعتاد على الحصول عليها والبحث عنها والتوق إليها. إنها شيء جديد دائما يُحدث الدهشة والإعجاب من خلال رؤية خيال الله الخلاق عندما يأتي لملاقاتنا بمحبته.
لقد أظهر الله نفسه كاشفًا عن اسمه أكثر من مرة، وهذا الإسم هو "رحيم" (را. خر 34، 6). وعلى قدر ما هي كبيرة ولامتناهية طبيعة الله هكذا أيضًا كبيرة ولامتناهية هي رحمته، لحد أن وصفَها بكل أبعادها، يبدو مهمة صعبة.
من خلال قراءة صفحات الكتاب المقدس، نجد أن الرحمة هي قبل كل شيء قرب الله من شعبه. وهذا القُرب يظهر ويتجلى أساسًا بشكل المساعدة والحماية. إنه قرب أب وأم ينعكس بصورة رائعة قدمها النبي هوشع. والذي يقول: "بِحِبالِ البَشرِ، بِرَوابِطِ الحُبِّ اجتَذَبتُهم وكُنتُ لَهم كمَن يَرفَعُ الرَّضيعَ إِلى وَجنَتَيه وانحَنَيتُ علَيه وأَطعَمتُه" (هو 11، 4). إنه العناق بين أب أو أم مع ابنهما. إنها صورة تعبيرية للغاية: إن الله يأخذ كل واحد منا ويرفعنا إلى وجنتيه. كم من الحنان تحتوي هذه الصورة وكم من الحب تُظهر! الحنان: كلمة نكاد أن نكون قد نسيناها، كلمة يحتاج إليها العالم – ونحن أيضًا – نحتاجها. فكرتُ بكلمة النبي هذه عندما رأيتُ شعار اليوبيل. إن المسيح لا يحمل البشرية على كتفيه وحسب، بل إن وجنته تتلاصق بوجنة آدم لحد أن الوجهين يبدوان وكأنهما يذوبان في وجه واحد.
إلهنا ليس إلهًا لا يعرف كيف يفهم ضعفنا ويتعاطف معه ( عب 4، 15). بل على العكس! فبفعل رحمته صار الله واحدا منا: "بتجسُّدِهِ اتَّحَدَ ابن الله نوعاً ما بكلِّ إنسان. لقد اشتغل بيدي إنسانٍ وفكر كما يُفكر الإنسان وعمل بإرادة إنسانٍ وأحبَّ بقلبِ الإنسان. لقد وُلِدَ من العذراء مريم وصار حقاً واحداً منا شبيهاً بنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة" (فرح ورجاء، 22).
ففي يسوع، لا يمكننا أن نلمس رحمة الله لمس اليد وحسب، بل هذا يدفعنا إلى أن نصبح نحن أيضًا أدوات للرحمه. قد يكون الحديث عن الرحمة سهلاً، لكن من الأصعب أن نشهد لها عمليًّا. إنها مسيرة تستمر مدى الحياة ويجب ألا تتوقف إطلاقًا. قال يسوع بأنه علينا أن نكون "رُحماء كالآب" (را. لو 6، 36). وهذا يحتاج لكل الحياة!
كم هي عديدة أوجه رحمة الله! إننا نتعرف عليها بشكل قرب وحنان، وبموجب هذا، كتعاطف ومشاركة أيضًا، وكتعزية وغفران. من ينال الرحمة أكثر من غيره هو مدعو إلى تقديمها والمشاركة بها أكثر من الآخرين؛ لا يجب إبقائها مخفية أو الاحتفاظ بها لذواتنا. إنها شيء يشعل القلب ويدفعه على المحبة، والتعرف على وجه يسوع المسيح لاسيما في أوجه الأشخاص البعيدين والضعفاء والوحيدين والمربكين والمهمشين.
إن الرحمة لا تقف مكتفة اليدين بل تذهب للبحث عن الخروف الضال، وعندما تجده تعبّر عن فرح مُعدٍ. الرحمة تعرف كيف تنظر في عيني كل شخص؛ إن كل شخص ثمين بالنسبة لها، لأنه فريد. كم من الألم نشعر في القلب عندما نسمع هذه الكلمات: "هؤلاء، هؤلاء المساكين، دعونا نطردهم خارجا، ليموتوا فوق الطرقات...". هل هذا من يسوع؟
أيّها الأخوة والأخوات الأعزاء، الرحمة لا تتركنا أبدًا هامدين. إن محبة المسيح "تقلقنا" إلى حين بلوغنا الهدف؛ إنها تدفعنا إلى ضم ومعانقة وإشراك كل المحتاجين إلى الرحمة كي يتصالح الجميع مع الآب (را. 2 قور 5، 14-20).
يجب ألا نخاف، إنها محبة تلاقينا وتُشركنا إلى حد تخطي ذواتنا، كي تسمح لنا بالتعرف على وجهها في وجوه الأخوة. لندع هذه المحبة طوعًا تقودنا فنصبح رحماء كالآب.
لقد سمعنا الإنجيل: لقد كان توما عنيدًا. لم يشاء أن يؤمن. وقد وجد الإيمان فقط عندما لمس جراح الرب. فإيمان لا يستطيع أن يثق بجراح المسيح ليس إيمانًا! إيمان لا يستطيع أن يتحول إلى رحمة، وكم هي علامات رحمة جراح المسيح، ليس إيمانًا: إنه مجرد فكرة أو ايدولوجية.
إن إيماننا هو متجسد في إله قد صار بشرًا، صار خطيئة، إله قد انحنى من أجلنا. فإن كنّا نريد أن نثق حقا، وأن نؤمن، وجب علينا أن نقترب، وأن نلمس تلك الجراح، وأن نعانق تلك الجراح، وأن نحني رؤوسنا وأن نسمح للآخرين أن يعانقوا جراحنا.
من الجيد إذًا أن يكون الروح القدس هو من يقود خطواتنا: فهو المحبة، هو الرحمة التي تخرج من قلوبنا. دعونا لا نضع عراقيل أمام عمله المحيي، بل لنتبعه بوداعة على الدروب التي يرشدنا إليها. ولنُبقي قلوبنا منفتحة كي يقدر الروح القدس أن يغيّرها؛ وهكذا، وبعد أن نحصل على الغفران والمصالحة وبعد أن ننغمس في جراح الرّبّ، نصبح شهودًا للفرح النابع من لقائنا بالرّبّ القائم من الموت والحي في وسطنا.
عظة قداسة البابا فرنسيس
عشية عيد الرحمة الإلهية
ساحة القديس بطرس
السبت 2 أبريل / نيسان 2016