رجاء المؤمن لا يخيب
ذاك ما قاله بولس الرسول في إطار التبرير والخلاص (رو 5: 1-11). برَّرنا الله، منحَنا نعمته، وهذه النعمة ترافقنا في الشدائد فتلد الصبر. فماذا ننتظر بعد ذلك، نحن الذين كنّا ضعفاء، فحصلنا على القوَّة من الله، نحن الذين كنّا خطأة، فمات المسيح من أجلنا. لهذا هتف الرسول: "رجاؤنا لا يخيب، لأنَّ الله سكب محبَّته في قلوبنا بالروح القدس" (آ5). فالرجاء يجعل المؤمن يتطلَّع إلى المستقبل، ويضع أمامه تطلُّعًا إلى السعادة يُدعى إليها جميعُ البشر. فالرسول يقول: "إنَّ الله مخلِّصنا يريد أن يخلص جميع الناس ويبلغوا إلى معرفة الحقّ" (1 تم 2: 4). ومواعيد الله تكشف لنا شيئًا فشيئًا عظمة هذا المستقبل الذي لن يكون فقط في هذا العالم، لكن يتطلَّع إلى الآخرة. على ما قال بولس: "الرجاء المنظور لا يكون رجاء" (رو 8: 24).
1- الرجاء انتظار وثبات
تحدَّثت الرسالة إلى رومة عن هذا الشوق العميق والمتواصل، الذي نعبِّر عنه بلغة الانتظار. ثلاث مرّات أورد ف 8 فعل »انتظر«. على مستوى الخليقة كلِّها الذي تنتظر أن يُكشَف مجدُ الله. »فالخليقة تنتظر بفارغ الصبر ظهور أبناء الله« (آ19). ونحن أيضًا ننتظر، لا انطلاقًا من الفراغ، بل ممّا نمتلك منذ الآن، انطلاقًا من الباكورة التي تعدُّنا إلى كامل العطاء: »وما هي وحدها« (آ23أ). أجل الخليقة تئن. »بل نحن الذين لنا باكورة الروح نئنُّ في أعماق نفوسنا، منتظرين من الله التبنّي وافتداء أجسادنا« (آ32ب). أجل، سبق الله وتبنّانا (آ15). ولكنَّنا ننتظر ملء التبنّي. وفي آ25 نقرأ: »أمّا إذا كنا نرجو ما لا ننتظره، فبالصبر ننتظره«، وبالثبات. هذا يعني »الامتلاك« باليدين، لا بالعينين فقط. هنا نلتقي مع ما قاله بولس في الرسالة إلى غلاطية: »أمّا نحن فننتظر على رجاء أن يبرِّرنا الله بالإيمان بقدرة الروح" (غل 5: 5). هذا يعني أنَّنا لا نرجو شيئًا آخر. وفي جماعة الغلاطيّين، لا ننتظر شيئًا من الختان ولا من أعمال الشريعة. فإذا عدنا إلى مثل هذه الأمور، تخلَّينا عن الحرِّيَّة التي صارت لنا بالمسيح، وعُدنا »إلى نير العبوديَّة« (آ1).
وإلى الانتظار، يضُمُّ الرجاءُ الصبرَ والثبات، كما يقول لنا الكتاب: لم تقاوموا بعدُ حتّى الدم في مصارعة الخطيئة (عب 2: 4). إذا كان الله يعاملنا بالصبر وينتظر عودتنا نحن، كما الابن الضالّ، »متغاضيًا بصبره عن الخطايا الماضية" (رو 3: 25)، فكيف يجب علينا أن نتصرَّف؟ ذاك ما قاله الرسول إلى أهل تسالونيكي الذين قاسوا الكثير من بني أمَّتهم. هل يتراجعون؟ كلاّ. بل يلبثون ثابتين في الرجاء، ناشطين في الإيمان، مجاهدين في المحبَّة (1 تس 1: 3). وهم يتطلَّعون إلى مجيء الربّ بفرح (1 تس 2: 19)، لأنَّهم أبناء الرجاء. ومع الصعوبات الحاضرة، تكون الثقة المتجذِّرة في إيمان لا تَزَعْزُعَ وفي الوقت عينه متواضع. وهذا ما يدفع بولس للتوجُّه إلى الكورنثيّين فيقول لهم: "وأنتم تنتظرون ظهور ربِّنا يسوع المسيح الذي يحفظكم ثابتين إلى النهاية" (1 كو 1: 7-8).
ويظلُّ التفاعل بين الرجاء من جهة والصبر والثبات من جهة أخرى. فإذا كان الرجاء ينبوع الصبر، فالصبر بدوره يولِّد الرجاء، لأنَّه الطريق إلى الرجاء. وهذا الرجاء يُبان من خلال المحن التي يتحمَّلها المؤمن في ثقة لا تُزعزعَ فيها. في هذا المجال نقرأ الرسالة إلى رومة: "نحن نفتخر بها (بالنعمة) في الشدائد، لعلمنا أنَّ الشدَّة تلد الصبر، والصبر امتحان لنا، والامتحان يلد الرجاء" (رو 5: 3). هذا يعني أنَّ المؤمن لا يتزعزع (1 تس 3: 3)، وإن كثرت عليه الشدائد، لا ينغلق على نفسه فيتطلَّع إلى الآخرين على مثال الرسول الذي قال: "لنقدر نحن بالعزاء الذي نلناه من الله، أن نعزّي سوانا في كلِّ شدَّة" (2 كو 1: 4).
2- الرجاء والخلاص
من هو الذي ينعش في قلبه الرجاء؟ المؤمن بشكل خاصّ. والجماعة عمومًا. كما نجد في المزامير مثلاً أو في الأسفار الحكميَّة. نقرأ آيات في مز 119 عن هذا الرجاء. "يراني الذين يخافونك، فيفرحون لرجائي بكلامك" (آ74). فأنا أرجو كلامك الذي يصل إليَّ فينير طريقي ويعزِّيني. »ستري وترسي أنت. وكلامك هو رجائي" (آ114). أحسَّ المؤمن أنَّه في خطر، فانتظر الحماية من الربّ. ويمضي الليل ويطلُّ النهار بما يحمل من مخاطر، فلا يجد المرتِّل سوى كلام الربِّ أو الربّ نفسه: "أستبقُ الفجر وأستغيث، وكلامك يا ربّ رجائي« (آ147). وترد الصلوات: »رجائي أنت، يا ربّ، فاستجب لي يا إلهي« (مز 38: 16). أو النداءات: "تشجَّعوا وقوُّوا قلوبكم، يا جميع الذين يرجون الربّ" (مز 31: 25). وفي سفر الأمثال: »لا تقل: أستسلمُ للشرّ، بل ترجَّ الربَّ فيخلِّصك« (أم 20: 22).
في هذا الإطار جاء كلام القدّيس بولس يثبِّت المؤمن في الحرِّيَّة، ولا يطلب التبرير في أعمال الشريعة، بل في انتظار هادئ وإيمان يجعله الروح في قلوبنا: الروح يجعلنا ننتظر الخيرات التي نرجو (غل 5: 5). والإنسان المبرَّر لا يستند إلى نفسه، ولا إلى أمور يقدِّمها العلم، بل إلى محبَّة الله. وهكذا يقيم في رجاء موجَّه نحو نهاية للزمن. أمّا موقفه فيتَّسم بالنشاط والحرارة والديناميَّة. هنا تأتي صورة الفلاّح الذي يعمل في الأرض وينتظر الغلال الآتية. فلولا الرجاء بأن ينال »نصيبه« من الخير، لما كان يعمل. قال الرسول: »على الذي يفلح والذي يدرس الحبوب أن يقوما بعملهما هذا على رجاء أن ينال كلٌّ منهما نصيبه منه« (1 كو 9: 10). ويطبِّق الرسول هذه الصورة على عمله مع الفريق الرسوليّ: »فإذا كنّا زرعنا فيكم الخيرات الروحيَّة، فهل يكون كثيرًا علينا أن نحصد من خيراتكم المادِّيَّة؟« (آ11).
ومع أنَّ الخلاص الذي حمله المسيح حاضرٌ منذ الآن بحيث تكون المشاركة داخل الجسد الواحد، فالمسيحيّ يمتلك منذ الآن جوهر ما تكون سعادته. أمّا انتظاره ففي الرجاء وبالروح بحيث إنَّ الخلاص يُمنح دومًا للمسيحيّين. وهذا الرجاء لا يمكن أن يخيب لأنَّه مؤسَّس على محبَّة الله التي تجلَّت في المسيح وأُفيضت في القلوب. ولا تقُلْ إنَّنا خطأة. »فالله برهن عن محبَّته لنا بأنَّ المسيح مات من أجلنا ونحن بعد خاطئون« (رو 5: 8).
وهذا الخلاص الذي نلنا »رعبونه« في موت يسوع وقيامته، يبقى بعيدًا في تحقيقه التامّ، الناجز، لأنَّنا لا نستطيع أن ندركه وجهًا لوجه. الرؤية تدخلنا في امتلاك الأشياء منذ الساعة الحاضرة، وتقيم علاقة عابرة. أمّا الرجاء الذي يلتفت نحو المستقبل، فيقيم علاقة مع الحقائق الأبديَّة التي ليست بعدُ هنا، مع الحقائق اللامنظورة، على ما قال الرسول: »وما نراه اليوم هو صورة باهتة، في مرآة (أي: بصورة غير مباشرة)، وأمّا في ذلك اليوم، فنرى وجهًا لوجه« (1 كو 13: 12).
وماذا يؤكِّد لنا هذه الحقائق؟ أمانة الله لمواعيده، وقدرته التي تكفل لنا الخيرات اللامنظورة والآتية في نهاية الزمن. ويرتاح رجاؤنا في إيمان واثق به نقتنع بما يقوله الله ويُتمُّه لأنَّه الله. فباسم ربِّنا يسوع المسيح نُقيم في هذا الرجاء. وباسم يسوع المسيح حصلنا بالإيمان على هذه النعمة.
إنَّ خلاصنا هو موضوع رجاء. لهذا نحن لا يراه. وإن هو حصل لنا، فلماذا ننتظره بعد أن حصلنا عليه؟ فيبقى علينا أن ننتظره ثابتين، متقوِّين، لهذا يهيئ سفر الأمثال ذاك الساهر على الدوام، على مثال الخادم الأمين الحكيم الذي ينتظر عودة سيِّده لكي يفتح له سريعًا: »من خضع للربِّ يدوم هناؤه، ومن قسّى قلبه يقع في الشر« (أم 28: 14). أمّا الرافض فيكون نصيبُه نصيب العشب، بحسب كلام أشعيا: »كلُّ بشر عشب، وكزهر الحقل بقاؤه (أو: ثباته). ييبس ويذوي... بنسمة تهبّ...« (أش 40: 6-7).
إلى التسالونيكيّين كتب بولس حين رأى قلقهم، لأنَّ بعض إخوتهم وأخواتهم تُوفُّوا »قبل مجيء الربِّ الثاني"، الذي انتظروه قريبًا. دعاهم إلى الإيمان وإلى الانتظار. لا مجال للبلبلة في انتظار الربّ. فهو آتٍ لا محالة، وذكرَ لهم الفضائلَ الإلهيَّة الثلاث: الإيمان والمحبَّة والرجاء. ونبَّههم أنَّهم أبناء النور والنهار، لا أبناء الليل والظلمة. فماذا ينبغي لهم أن يفعلوا؟ يلبسون »درع« الإيمان والمحبَّة، و«خوذة« رجاء الخلاص (1 تس 5: 8). هكذا يحمون أنفسهم من فخاخ الشرّير، ولا يعيشون في الخوف. فهم يعلمون جيِّدًا أنَّ الله »جعلنا لا لغضبه، بل للخلاص بربِّنا يسوع المسيح" (آ9).
3- الرجاء ومجد الله الآتي
بين زمن الخلاص النهائيّ الحاضر هنا منذ الآن، بل منذ صلب يسوع وقيامته، وبين زمن التجلّي الكامل لهذا الخلاص، يتميَّز الوجودُ المسيحيّ بالضيق والشدَّة، بالظلمة والليل، بالضعف والتناقضات. ويتحدَّد موضعُ هذا الوجود في مواجهة مع أمور تعارض حياتنا الجديدة كأبناء الله. تحدَّث ابن سيراخ »عمّا يوجعُ القلب ويحزنه« (سي 26: 6). فقال: »الحزنُ يؤدِّي إلى الموت، وهمُّ القلب يهدُّ العزيمة. الحزن في المصيبة لا مفرَّ منه، والحياة في البؤس تتأكَّل القلب« (سي 38: 18-19).
هنا تأتي استعارة الوجع الذي يصيب المرأة عند الولادة. هي البداية، ولكن هذا الوضع يتواصل ويتطوَّر. وعيش العلاقة البنويَّة مع الله، تعني الجهاد والقتال، وتتضمَّن عبورًا متواصلاً إلى الحرِّيَّة، حرِّيَّة أبناء الله. هنا نتذكَّر كلام الربِّ في إنجيل يوحنّا: "المرأة تحزن وهي تلد، لأنَّ ساعتها جاءت. فإذا ولدت تنسى أوجاعها، لفرحها بولادة إنسان في العالم. وكذلك أنتم تحزنون الآن، ولكنّي سأعود فأراكم، فتفرح قلوبكم فرحًا لا ينتزعه منكم أحد" (يو 16: 22). تلك هي العاطفة التي يحدِّثنا عنها بولس الرسول، حيث الرجاء يتحدَّد موقعه على مستوى الخلاص الذي صار آنيٌّا. فالرجاء لا يلغي الانشداد والتوتُّرات، بل يساعدنا على تحمُّلها بصدق وعلى تجاوزها. والرجاء الذي هو قوَّة انشداد بين الواقع المنظور وحقيقة الخلاص الذي لا نقدرُ بعد أن نشاهده، هو إمكانيَّة التحرُّك بشكل ناشط وعنيد نحو مستقبل من السعادة والمجد، يكون الشرط الأخير في نهاية الزمن.
قال الرسول: "وأرى أنَّ آلامنا في هذه الدنيا، لا توازي المجد الذي سيظهر فينا. والخليقة تنتظر بفارغ الصبر ظهور أبناء الله. وما كان خضوعُها بإرادتها، بل بإرادة الذي أخضعها (= آدم أو إبليس). ومع ذلك، بقيَ لها الرجاء أنَّها هي ذاتها ستتحرَّر من عبوديَّة الفساد لتشارك أبناء الله في حرِّيَّتهم ومجدهم« (رو 8: 18-21). يتمجَّد الإنسان وتتمجَّد الخليقة، وكلُّ هذا ثمرة صليب الربِّ وقيامته. لقد أراد الله "أن يصالح به (بالمسيح) كلَّ شيء، في الأرض كما في السماوات. فبدمه على الصليب حقَّق السلام"(كو 1: 20).
وهكذا يعني الرجاءُ الانتظار الواثق والمؤيِّد لما يأتي، ولمن يأتي. كما يعني حالة من السهر المتنبِّه للزمن المؤاتي. على ما نقرأ مثلاً في نبوءة أشعيا: "في وقت القبول (والرضى) استجبتُك، وفي يوم الخلاص أعنتُك، فأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب" (أش 49: 8). وبولس الرسول الذي لاقى المعادين في جماعة أفسس، كما انتظار المثول أمام القضاة، استطاع أن يكتب إلى كنيسة فيلبّي: "لأنّي أعرفُ أنَّه يعمل على (= يخدم) خلاصي، بفضل صلواتكم ومعونة روح يسوع المسيح. فكلُّ ما أتمنّاه وما أرجوه أن لا أخزى أبدًا، بل أكون الآن وفي كلِّ حين جريئًا بكلِّ كياني لمجد المسيح" (فل 1: 19-20).
الخاتمة
العهد القديم، يشير إلى ذاك الذي يأتي. والعهد الجديد إلى ذاك الذي أتى، ولهذا يضع الرسول مع المؤمنين موضوع الرجاء وفعلَ الرجاء. ما يمكن أن ينتظروه من الله، وكيف يكون انتظارهم الذي يغذِّي الرجاء فيهم. وهذا الرجاء الذي يعيشه المؤمن في الظلام، في هذا النفق الطويل، يؤكِّد له أنَّ حياته الجديدة في الروح، هي عربون ملء المجد وتمامه. فماذا ننتظر أمام هذا النداء؟ »ننتظر في قلب الثقة بالرب« (فل 2: 24).
الأب بولس فغالي