استقبل قداسة البابا فرنسيس ظهر يوم السبت أعضاء عائلة القدّيس منصور دي بول في ساحة القدّيس بطرس وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة رحّب بها بضيوفه وقال:
أحييكم وأشكر الرّبّ في الوقت عينه على مرور أربعمائة عام على موهبتكم. لقد ولّد القدّيس منصور اندفاع محبّة دام عبر العصور؛ وبالتالي أريد اليوم أن أشجّعكم على متابعة هذه المسيرة مقدِّمًا لكم ثلاثة أفعال أعتقد أنّها مهمّة لروحانيّة القدّيس منصور وإنّما للحياة المسيحيّة بالإجمال وهي العبادة أو الإكرام والاستقبال والانطلاق.
أوّلاً العبادة، عديدة هي دعوات القدّيس منصور لتعزيز الحياة الداخليّة والتكرُّس للصّلاة التي تنقّي القلب وتفتحه. لقد كانت الصّلاة جوهريّة بالنسبة له، هي البوصلة اليوميّة وكدليل حياة، وهي – كما كتب – كتاب الواعظ الكبير لأنّه بالصّلاة فقط يمكننا أن نستقي من الله الحبّ الذي يجب علينا أن نسكبه على العالم؛ وبالصّلاة فقط نلمس قلوب الأشخاص عندما نعلن الإنجيل. ولكن بالنسبة للقدّيس منصور ليست الصّلاة مجرّد واجب ولا مجموعة صيغ وعبارات؛ بل هي المثول أمام الله والإقامة معه لنكرّس أنفسنا ببساطة له. هذه هي الصّلاة الأنقى وهي تعطي مكانًا للرَّبِّ وتسبيحه وهذه هي العبادة.
عندما نكتشف العبادة تصبح أمرًا لا يمكننا الاستغناء عنه لأنّها علاقة حميمة مع الربّ تعطي السّلام والفرح وتحلُّ اضطرابات الحياة. لذلك عندما كان يلتقي القدّيس منصور بشخص يعيش ضغطًا معيّنًا كان ينصحه بالصّلاة "بدون قلق من خلال الارتماء بين يديّ الله بواسطة تبادل نظرات بسيط بدون أي جهد ملموس للشّعور بحضوره وإنّما بالاستسلام له فقط". هذه هي العبادة: إنّها المثول أمام الرّبّ باحترام وهدوء، في صمت مانحين المكان الأوّل له ومستسلمين بثقة بين يديه؛ لنطلب منه بعدها أن يأتي روحه إلينا وتذهب أمورنا إليه، كذلك أيضًا المعوزون والمشاكل الملحّة والأوضاع الثقيلة والصعبة، جميع هذه الأمور تدخل في العبادة لدرجة أنّ القدّيس منصور كان يطلب أن "نعبد في الله" حتى الأمور التي يصعب علينا فهمها وقبولها. من يعيش هذه العلاقة مع الله ويلازم مصدر الحبّ الحيّ لا يمكنه إلّا أن يأخذ "العدوى" ويبدأ بالتصرّف مع الآخرين كما تصرّف الربّ معه فيصبح أكثر رحمة وتفهُّمًا وجهوزيّة ويتخطّى تحجّره وينفتح على الآخرين.
نصل هكذا إلى الفعل الثاني وهو الاستقبال، عندما نسمع هذه الكلمة نفكِّر فورًا بشيء نقوم به لكن الاستقبال في الواقع هو استعداد أعمق: لا يتطلّب فقط أن نفسح المجال لشخص ما وإنّما أن نكون مضيافين ومستعدّين ومعتادين على بذل ذواتنا في سبيل الآخرين، وبالتالي كما تصرّف الله معنا نتصرّف نحن بدورنا مع الآخرين. الاستقبال يعني إعادة تحديد الـ"أنا" وتقويم أساليب التفكير لنفهم أنَّ الحياة ليست ملكًا خاصًا وأنَّ الزمن ليس لي. إنّه تجرّد بطيء عن كلِّ ما هو لي: وقتي وراحتي وحقوقي ومشاريعي وبرامجي. إنّ الذي يستقبل يتخلّى عن الـ"أنا" ليُدخل في حياته الـ"أنت" والـ"نحن".
إنَّ المسيحيّ المضياف هو ابن حقيقيّ للكنيسة، لأنّ الكنيسة أمّ وهي تقبل الحياة وترافقها. وكما يشبه الابن أمّه ويحمل سماتها هكذا يحمل المسيحيّ سمات الكنيسة هذه، وبالتالي فالابن الأمين حقًّا للكنيسة هو شخص مضياف يستقبل وبدون تذمّر يخلق الوفاق والشّركة ويزرع السّلام بسخاء حتى إن لم يبادله أحد بالمثل. ليساعدنا القدّيس منصور كي نقيّم هذا "الحمض النووي" الكنسيّ للاستقبال والاستعداد والشّركة لكي نزيل من بيننا "كُلَّ شَراسةٍ وسُخْطٍ وغَضَبٍ وصَخَبٍ وشَتيمة وكُلَّ ما كانَ سُوءًا" (أفس 4، 31).
أمّا الفعل الأخير فهو الانطلاق؛ الحبّ هو ديناميكيّ ويخرج من ذاته، وبالتالي من يحبّ لا يبقى جالسًا في كنبته ينتظر مجيء عالم أفضل وإنّما وبحماس وبساطة يقوم وينطلق. وقد قاله القدّيس منصور بوضوح: "دعوتنا هي الإنطلاق لا إلى رعيّة واحدة أو أبرشيّة واحدة وإنّما إلى الأرض كلّها؛ ولماذا؟ لنشعل قلوب البشر من خلال القيام بما قام به ابن الله الذي جاء ليحمل النّار إلى العالم ليُضرمه بمحبّته".
هذه الدّعوة لا تزال صالحة للجميع، وتطرح السّؤال على كلّ فردٍ منّا: "هل أنطلق للقاء الآخرين كما يريد الربّ؟ هل أحمل إلى حيث أذهب نار المحبّة هذه أم أنّني أبقى منغلقـًا على نفسي أتدفئ أمام موقدتي؟".
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء أشكركم لأنّكم تتحرّكون على دروب العالم كما قد يطلب منكم القدّيس منصور اليوم. أتمنى ألا تتوقّفوا أبدًا بل أن تستمرّوا بالاستقاء يوميًا بالعبادة من محبّة الله وتنشروها في العالم من خلال عدوى المحبّة والجهوزيّة والوفاق. أبارككم جميعًا وجميع الفقراء الذين تلتقون بهم وأسألكم من فضلكم ألا تنسوا أن تصلّوا من أجلي!
إذاعة الفاتيكان.