يسوع يواصل جوابه على سؤال التلاميذ: "ما هي علامة مجيئك ونهاية العالم" (متى 24: 3). لكنّه لا يجيب مباشرة على هذا السؤال، بل يكلّمهم ويكلّمنا عن المضايقات التي نعيشها وسوف نعيشها، فيما نحن سائرون في هذا العالم، نبني فيه ملكوت الله بالوعي والإدراك والثبات في الإيمان. المهمّ ألّا نضلّ الطريق.
1. ينبّهنا الربّ يسوع عن ظهور "مسحاء وكذبة" و"أنبياء كذبة"(متى 24: 23-31)، ويعني بهم أصحاب التعليم غير الصحيح وغير السليم. وهو تعليم إمّا مفرط في التفسير الذي يوسّع الضمائر ويحلّل كلّ شيء، وإمّا متمسّك بالحرف الذي يقتل ويحجّر المواقف ويكبّل الضمائر والعقول والإرادات. وقال الربّ: "إن قال لكم أحد... فلا تصدّقوا" (الآية 23). هذا "الأحد" لا يحلّ مكان الكنيسة المؤتمنة على التعليم الصحيح، وقد سلّمها الربّ يسوع سلطة التعليم، "ومفاتيح الحلّ والربط". فسلّمها لبطرس منفردًا بكونه "هامة الرسل" (متى 16: 19) وللاثني عشر مجتمعين (متى 18: 18). هذا يعني في تعليم الكنيسة أن السلطة التعليمية هي في شخص الحبر الأعظم، رأس الكنيسة المنظورة، والجسم الأسقفي الذي هو في شركة كنسيّة وعقائديّة معه.
2. هذا "أحدهم" الذي يدلي برأيه أو بنظريّته، غير المنسجم مع تعليم الكنيسة الرسمي، يقول المسيح: "لا تصدّقوه". فالله هو "السرّ العظيم"، ومعرفته لا تأتي من رأي ونظرة، بل من كشف ذاته في سرّ التجسّد والفداء، وفي تعليم الكنيسة الرّسمي. إنّ أجمل إعلان لإيماننا هو القول: "إيماني إيمان بطرس، إيمان بطرس إيماني". هذا يعني أنّنا بالإيمان نخوض مغامرة مع الله، يجعلها الإيمان جميلة وسهلة، وتحوّلها قلّتُه إلى عبء مرهق وبغيض.
3. يسمّي الربّ يسوع هؤلاء المعلّمين "مسحاء دجّالين وأنبياء كذبة" (الآية 24)، لا ليحكم عليهم، بل ليوضح أنّه لا يوجد إلا مسيح واحد، ونبوءة واحدة، وتعليم واحد. ويقول ان "ما يأتونه من آيات وخوارق إنّما هو لتضليل المختارين، إذا قدروا" (الآية 24). ما يعني أنّ "الآيات والخوارق"، إذا حصلت ليست مصدرًا للإيمان، ولا دليلًا قاطعًا على صحّة التعليم. فالإيمان لا يُبنى على المظاهر.
يسوع نفسه لم يبنِ تعليمه على الآيات التي كان يصنعها، بل على كونه مطابقًا لما ورد في الكتب، ولإرادة الآب. وهكذا قال عن نفسه "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6).
التكنولوجيّات الحديثة التي تؤتي الخوارق، لا يمكن أن يتعلّق قلبنا بها كأنّها "الإلهُ الجديد"، فنوليها ثقتنا ونضع فيها كلّ رجائنا.
لا تقبل الكنيسة أن نبني إيماننا على الخوارق، ولا تُلزمنا بتصديقها. بل تدعونا لعدم الحطّ من قيمتها.
وإذ يقول الربّ يسوع "ها أنا قد أنبأتكم" (الآية 25)، فلكي يخرجنا من حالة الجهل والبساطة السطحية في النظر إلى هذه الأمور، ويضعنا في حالة المسؤولية. فهو يتّكل علينا في نقل بشارة الإنجيل وتعليم الكنيسة. وهذا يستدعي أن يكون إيماننا سليمًا، واعيًا وصحيحًا.
من هذا القبيل تعنى الكنيسة بتثقيف إيمان أبنائها وبناتها، بشتّى الطرق، لأنّهم هم أيضًا مسؤولون عن نشر حقيقة إنجيل الخلاص في مجتمعاتهم.
4. ويؤكّد الربّ يسوع أنّه لا يوجد حصرًا في مكان معيّن: "فإن قالوا لكم: ها هو في البرّية، فلا تخرجوا! أو ها هو في داخل البيت! فلا تصدّقوا! (الآية 26). ذلك أنّه يوجد في داخل الإنسان، في كلمته الإنجيلية، في سرّ القربان ومنه في سائر الأسرار. كثيرون يعتقدون أنّهم سوف يجدون المسيح في هذا المكان أو في هذه الجماعة أو من خلال هذا النشاط. قد نجد أشخاصًا يقومون باختبارات رائعة مع جماعة معيّنة. ولكن، إذا ما توقّف هذا الاختبار، بمجرّد الابتعاد عن هذا الجوّ، يسقطون في نوع من الفراغ أوالضياع.
هذا يدلّ على أن ارتباطهم كان بالجماعة لا بالله؛ إن الله معنا في كلّ مكان. الجماعة والالتزام والاختبارات كلّها ضروريّة لنوّ الإيمان ولعيشه؛ ولكن يبقى أمر أساسي هو أنّ الإيمان علاقة شخصيّة وداخليّة مع الله. هذا هو الأساس: ليس الإيمان أمورًا خارجيّةً نقوم بها، ولا هو في المؤسّسة أو في مكان أو في حالة. يمكننا القول أيضًا أنّ الإيمان ليس في مجرّد الالتزام بالكنيسة. نجد أحيانًا أناسًا ملتزمين بالنشاط الرعويّ أكثر من أيّ شخص آخر، إلاّ أنّ حياتهم لا تشهد عن إيمانهم. إن لم تجد المسيح في إعماق قلبك لن تجده في إيّ مكان آخر. الإلتزام مهمّ للتعبير ولعيش الإيمان الذي سبق واختبرناه في أعماق قلوبنا. الإيمان هو الخطوة الأولى الضروريّة. والإلتزام هو الثمرة المرجوّة.
5. من أجل تأكيد هذه الحقيقة، يستعمل الربّ يسوع استعارة من الطبيعة: "فكما أن البرق يومض من المشارق، ويسطع حتى المغارب، هكذا يكون مجيء ابن الإنسان" (الآية 27). هذا المجيء يعني ثلاثة: مجيء الربّ اليومي في حياتنا الأرضيّة، ومجيئه عند ساعة الموت، ومجيئه بالمجد عند نهاية الأزمنة. المهمّ في كلامه أن نكون يقظين عندما يطرق بابنا كلّ يوم من أجل الشهادة له بأقوالنا وأفعالنا والمبادرات؛ وأن نكون مستعدّين للمثول أمام عرش الله عند ساعة الموت.
ويضيف باستعارة أخرى: "حيث تكون الجثّة، هناك تجتمع النسور" (الآية 28). فكما تجتمع النسور لتأكل، هكذا المؤمنون يجتمعون ليغتذوا من كلام الحياة، ومن جسد الربّ ودمه. فالمسيح عندما يأتي في حياتنا اليوميّة، فلكي يكون لنا قوت الحياة؛ وعندما يأتي في ساعة الموت، فلكي يشرك المؤمنين المخلصين في وليمة عرس الحمل.
في رؤيا يوحنا، يؤكِّد الربّ: "ها أنا واقف على الباب أقرعه. فإن سمع أحد صوتي وفتح الباب، دخلتُ إليه وتعشّيتُ معه. وتعشّى معي" (رؤ3: 20). إنّه في اقتراب دائم من كلّ واحد منا، يقرع باب عقله وقلبه وضميره، ينتظر فتح الباب، ويقاسمه زاد الحياة الروحي والمعنوي.
6. ينتقل الربّ يسوع في حديثه إلى الكلام عن علامات نهاية العالم: "الشمس تُظلم، والقمر لا يعطي ضوءه، والنجوم تتساقط من السماء، وقوّات السماوات تتزعزع" (الآية 29).
الشمس والقمر والنجوم اجرام تحكم الزمن. انطفاؤها وسقوطها يرمزان إلى نهاية الزمن العادي، إلى توقّف التاريخ الأرضيّ، ليحلّ محلّه تاريخ جديد من نوع آخر، تاريخ إلهيّ، لا يحكمه إلاّ الله. نحن أمام "خلق عالم جديد". فأمام الضيق الشديد الذي أصاب المؤمنين، لا يبقى الله صامتًا. وأمام استفحال الشرّ في العالم، يتدخّل الله بقوّة، ليغيّر هذا العالم نهائيًّا. ما يقوم به هو خلق عالم جديد تكون فيه سماء ليست كهذه السماء، وشمس، أي تاريخ، ليس كما في السابق. هذا العالم الجديد هو "ملكوت السماوات".
متى يحدث كلّ ذلك؟ النهيويّات تبدأ هنا وتكتمل عند المجيء الثاني. ففي حياتنا اليوميّة، يتدخل الله ليغيّر حال الظلم الذي يصيبنا. كم من مرّة قام علينا الأشرار لدرجة أنّنا ظننّا أنّ نهايتنا قريبة. ولكن العناية الإلهيّة دبّرت مخرجًا لم نكن نحسبه. ومع هذا الخلاص، نرى كيف "يتبدّل العالم" إذ يسقط نجم الظلم لترتفع مكانه شمس الإله، شمس العدل والحبّ. إنّ الحرب بين الخير والشرّ مستمرّة حتّى نهاية الأزمنة، حين سينهي الله هذا التاريخ الضعيف، مقيمًا دينونته العامّة النهائيّة.
7. "حينئذٍ تظهر في السماء علامة ابن الإنسان" (الآية 30). إنّه مجيئه الثاني بالمجد. عند رؤيته ينتحب الكافرون خوفًا من الدينونة، فيما يجتمع المختارون على صوت البوق (الآيتان 30-31)، للقاء ليتورجي أبدي تملأه الغبطة والسعادة، ولا يستطيع أحد وصفه. قداسنا على الأرض في كنائسنا استباق لقداسنا الأبدي في السماء.
ثانيًا، الإرشاد الرسولي "فرح الحبّ"
من الفصل الثاني وهو بعنوان واقعات وتحديات. ننقل اليوم التحديات الي يواجهها الزواج والعائلة (الفقرات 50-57).
التحديّات التي يشير إليها الإرشاد الرسولي مأخوذة من الأجوبة على المشاورات من مختلف مناطق العالم وبلداتها. أهمية نقلها، ولو لم تكن كلّها مطروحة في جميع البلدان، أنّها تبيّن اهتمام الكنيسة الراعوي بشأنها كلّها. من هذه التحديات:
1) مهمة الوالدين التربوية التي أصبحت صعبة أكثر فأكثر لأسباب عدّة منها:
وصول الوالدين تعبين إلى البيت، عدم تقاسم مائدة الطعام، الإنشغال بتقنيات التواصل الجديدة والبرامج التلفزيونية، هموم الأهل بشأن المستقبل الذي يحرمهم إمكانية تقاسم الحاضر.
2) تعاطي المخدرات وهو جرح بليغ في عصرنا، والإدمان على المسكرات ولعب القمار. من المعوّل أن تكون العائلة مكان الحماية والمناعة، لكنها تحتاج إلى مساعدة المجتمع والجماعة السياسية.
3) كسر الرباط الزوجي ونتائجه الوخيمة على الأولاد المقتلعين من جذورهم، والذين أصبحوا يتامى فيما والدوهم أحياء، وعلى والمسنّين المهمَلين، المراهقين والشباب، والتائهين من دون حماية.
4) العنف العائلي السائد في عائلات معدومة التواصل، والتعاضد، وإمكانيّات المشاركة في نشاطات عائليّة؛ وفي عائلات تسود فيها بين الأهل نزاعات وخلافات وممارسات عنف، وبين الأهل وأولادهم علاقات عدائيّة. إنّ هذه الحالات تولّد الحقد والبغض في المجتمع.
5) تعدّد الزوجات، والحياة معًا قبل الزواج، والمساكنة من دون الرغبة في إنشاء رباط زوجي قانوني، ووجود تشريعات تفرغ الزواج من ميزاته الجوهرية: الاستئثارية والثبات والديمومة والانفتاح على الحياة، وتقوّضه قانونيًّا وتخضعه لأهواء الأشخاص وإرادتهم واستقلاليّتهم، من دون ايّة مرجعيّة.
6) أشكال من العبوديات والعنف الكلامي والحسّي والجنسي ضدّ المرأة، الذي يخالف الطبيعة والاتّحاد الزوجي، بالإضافة إلى عدم المساواة بحقّ المرأة فيما يختصّ بالوصول إلى مواقع عمل لائق، وأماكن القرار. والتعاطي مع المرأة كأنّها من درجة ثانية؛ الأمّهات الحاملات، المتاجرة بجسد المرأة في وسائل الاتّصال والدعايات.
7) تيّار الـGender الذي ينفي الاختلاف بين الذكر والأنثى، والتبادل الطبيعي بين الرجل والمرأة. إنّه يروّج لمجتمع من دون اختلاف في الجنس، فيقطع هكذا الأسس الأنتروبولوجيّة للعائلة. مع هذا التيّار، تفقد الهوية الإنسانية طابع العلاقة الحميمة القائمة على التنوّع البيولوجي بين الذكر والأنثى، وتصبح خاضعة للخيار الإفرادي، بالإضافة إلى التلاعب في فعل الإيلاد، وجعله مستقلًّا عن العلاقة الجنسيّة بين الرجل والمرأة.
كلّ هذه التحدّيات وسواها تستدعي من جهة الكنيسة راعوية خاصّة واعية وفاعلة، لحماية الزواج والعائلة، من أجل حماية الإنسانيّة كما خلقها الله، وقبولها واحترامها وتعزيزها. فعلى الكنيسة أن تقول كلمة الحقيقة والرجاء، وأن تنشر قيم الزواج والعائلة المسيحيّة التي تعطي معنى للوجود البشري.
* * *
صلاة
أيّها الربّ يسوع، أنت هو الحقيقة المطلقة التي تهدينا في طرقات الحياة. امنحنا الوعي اللّازم، كي لا نقع ضحيّة المضلّلين الذين يروّجون لحقيقتهم، ويناقضون ما تعلّمه أنت والكنيسة المؤتمنة على التعليم الصحيح. أعطنا نعمة الإصغاء لصوتك عندما تقرع باب قلوبنا، فندخل في شركة معك ونجد فيها ملء الحياة ومعناها وقيمتها. ساعد الكنيسة في راعويّتها التي تعضد عائلاتنا المسيحيّة في مواجهة التحدّيات الكثيرة والصعبة، فتظلّ عائلاتنا الضمانة لمجتمع إنساني وثقافي أفضل. فنرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
موقع بكركي.