عاش يسوع حياته كلّها مدافعًا عن الحقّ، يعلن أنّ الله هو أبوه مصدر حياة الناس، وقلبه كلّه رحمة ومحبّة ومغفرة للبشر جميعًا. كانت حياة يسوع انتباهًا ودعوةً واقعيّة موجَّهة بالأخص إلى الصِّغار والخطأة، لأنّه كان يعي أنّ "روح الربّ عليَّ لأنّه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأنادي للأسرى بالحرّيّة، وللعميان بعودة البصر إليهم، لأحرّر المظلومين، وأعلن الوقت الذي فيه يقبل الربّ شعبه" (لو4: 18-19).
كانت حياة يسوع وداعة وتواضع، رغبة في شفاء البشر من سجن الخوف والشكّ، ومن أسر الأنانيّة والطمع وسائر أنواع الشّهوات. وفي الأساس، أعلن يسوع عن الله القريب من البشر، الذي ينظر إلى القلوب ولا يُراعي الظواهر، يحبّ الإنسان في ضعفه وصغره، وينتظر منه الإيمان بأبوّته الفيّاضة ورحمته التي لا حدّ لها. صارت حياة يسوع شهادة عن الآب الذي ينتظر "فلسيّ الأرملة المسكينة" ويفرح بها لأنّها وثقت بعنايته الأبويّة، "فمن حاجتها ألقت كلّ ما تملك لمعيشتها" (لو21: 4).
هذا هو الحقّ الذي ولد يسوع من أجله، عاش ومات في سبيله. هذا الحقّ هو سبيل الإنسان للحياة الحقيقيّة، للكرامة، للفرح والعدالة والسّلام. وكما يقول يسوع: "إذا ثبتم في كلامي، صرتم في الحقيقة تلاميذي، تعرفون الحقّ، والحقّ يحرّركم" (يو8: 31-32). لا يمكننا أن نحيا حقيقة إلا بروح يسوع المسكوب في قلوبنا، ذاك الرّوح الذي أسلمه يسوع على الصَّليب حبًّا للآب ولإخوته البشر، دفاعًا عن الحياة والحقّ. وهذا الرّوح يسكن فينا ويعمل من خلالنا ليغيّر وجه العالم ويخلقه عالمًا إنسانيًّا، عالمًا حسب قلب الله، يحترم فيه البشر بعضهم بعضًا، لا يقسو فيه أحدٌ على الآخر، ولا يسلب أحدٌ حقّ أخيه، بل يسعى الكلّ للعدل والسّلام والحرّيّة.
واليوم يُطرح علينا السّؤال: من هو ملكنا؟، وما القيم التي نحيا بها ونريد أن نحقـِّـقها في عائلاتنا ودوائر عملنا وعلاقاتنا المتنوِّعة؟ وما رغبتنا العميقة في الحياة، وما حلمنا لبلدنا ومجتمعنا وعالمنا؟ يقول يسوع: "فكلّ مَن كان مِن الحقّ، يُصغي إلى صوتي" (يو18: 37). الحياة اختيار وقرار.
نختار من يتكلّم في قلبنا بعذوبة وبساطة وحنان، من يبعث فينا الاطمئنان والثقة والسَّلام، من يفتح أمامنا طريق الفرح والهمّة والشَّجاعة، فيدعونا أبناءه الأحبّاء. ونُبعد بحزم الصوت المخادع الذي يأخذنا في طريق الأنانيّة والطمع والمتعة، يسدّ آذننا عن نداءات النّاس من حولنا ويعمي عيوننا عن حاجات الفقراء والصّغار، فلا نعرف معه طعم الهناء ولا السّلام، بل الخوف والقلق والاضطراب.
بنعمة روح الحقّ، يُفرّحنا القليل ويُبهجنا الصَّغير لأنّنا نعرف أن نشاركه مع الآخرين، وفي حياتهم نكتشف حضور يسوع البسيط والرَّحيم. أمّا بروح العالم فلا يُرضينا الكثير ونظلّ نلهث وراء المزيد، لأنّ عيوننا قد عميت عن ذواتنا ونضل الطريق نحو أنفسنا، وبالتالي لا نرى الآخرين ولا نسمعهم.
يسوع الملك الوديع ومتواضع القلب (متّى 11: 29) هو من يقودنا إلى ذواتنا، وبنا يخلق عالمًا يجد فيه الإنسان ذاته وهويّته وكرامته. ومملكته خافية عن الحكماء والفهماء، لا ينتمي إليها سوى البسطاء، من يشبهون الأطفال في ثقتهم وإيمانهم، في شفافيّتهم وإخلاصهم. يسوع ملك حقًّا، ومملكته تضمّ كلّ المتعبين والرّازحين تحت الأثقال (متّى 11: 28)، الذين اختاروا طريق الحقّ وصاروا تلاميذ يسوع، يسمعون كلمته ويحيون بها، حتى يعرف الناس أجمعين إنّه هكذا أحبّ الله العالم حتى أنّه بذل ابنه الحبيب من أجله، "فلا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو3: 16).
الأب نادر ميشيل اليسوعي.